قضايا وآراء

نووي إيران ما بعد تيلرسون

1300x600

إيران أضحت الشغل الشاغل للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كأنها تحولت إلى كابوس يطارده ليس في الشرق الأوسط فحسب، وإنما في الولايات المتحدة الأمريكية، وداخل أركان الحكم الأمريكي أيضا. 

حيث أصبح يتحول الموضوع الإيراني إلى معيار أساسي في الإقالات والتعيينات بالإدارة الأمريكية. 

هذا ما أكد عليه الرئيس ترامب نفسه، عندما عزا عزل وزير خارجيته ركس تيلرسون إلى دعمه بقاء الاتفاق النووي مع طهران، وكذلك تعيين مايك بومبيو خلفا له لعدائه الشديد لهذا الاتفاق وإيران.

في الإطار نفسه، جاء حديث دونالد ترامب قبل أيام عن إيران في قاعدة جوية أمريكية في ولاية كاليفورنيا بعصبية مفرطة في الرابع عشر من آذار/ مارس الجاري، فقال: "أينما ذهبنا في الشرق الأوسط هناك إيران، إيران، إيران. كل مشكلة هي إيران".

يُرجح أن يكون الاتفاق النووي أول قضية تصلها شظايا إقالة تيلرسون، لكنها ليست الوحيدة، بل ستحذو حذوها قضايا أخرى كانت محل الخلاف بين الرجلين مثل الأزمة الخليجية، وملف كوريا الشمالية.

التغييرات التي تشهدها الإدارة الأمريكية هذه الأيام، تستهدف بالدرجة الأولى "تَرْمَبَة" البيت الأبيض أي جعله ترمبي الهوى والمزاج بالكامل، فاختيار رجل الأمن المتشدد "مايك بومبيو" على رأس الخارجية الأمريكية، والترجيحات بتعيين آخرين متطرفين في مناصب عليا مثل "جون بولتون" مستشارا للأمن القومي الأمريكي، يؤكد أننا خلال الفترة المقبلة سنكون أمام أكثر من ترامب في هذه الإدارة، التي ستكون الأكثر تطرفا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

فيما يتصل بإيران، يحمل عزل تيلرسون وتعيين مومبيو رسائل عدة، الأولى أن الرئيس الأمريكي يريد بهذا التغيير الإيحاء بالانتقال إلى سياسة عملية ضد طهران وجعل عام 2018 مختلفا عن سابقه الذي تميز بكثير من الكلام وقليل من العمل، والثانية هي إرسال رسالة "الترهيب والتخويف" لإيران ودفعها للتجاوب مع الجهود الأوروبية خلال مهلة الشهرين المتبقية.

مع ذلك، ورغم الخلافات بين الرجلين حول قضايا كثيرة منها نووي إيران، لا يمكن التسليم بأن ترامب استسلم لرغبة تيلرسون خلال الفترة الماضية، لأنه كان سدا منيعا في وجه محاولات إنهاء الاتفاق. 

بل إن اضطرار الإدارة الأمريكية للعمل بمقتضى الاتفاق إلى اليوم، له أسباب موضوعية أخرى لا يتسع المكان لتناولها.

عموما، التغييرات الراهنة في تركيبة الإدارة الأمريكية ترجح كفة المعارضين للاتفاق النووي ما تعرّض مستقبل هذا الاتفاق للخطر أكثر من قبل، فالإطاحة بمؤيدين له والإتيان بمعارضين جدد تمثل مؤشرا سيئا وقويا في هذا الاتجاه. 

كما أن مستقبل الاتفاق سيزداد قتامة إذا ما عيّن ترامب الجمهوري المتطرف "جون بولتون" العدو اللدود لإيران والاتفاق النووي مستشارا للأمن القومي الأمريكي، كما تتحدث عن ذلك مصادر أمريكية.

هذه المؤشرات في ظل استمرار طهران في رفضها تعديل الاتفاق النووي وفق رغبات الرئيس الأمريكي حتى هذه اللحظة، ترسم أفقا قاتما لما ستكون عليه الحال في 12 أيار/ مايو القادم عندما تنقضي مهلة الأشهر الأربعة التي حددها ترامب لتعديل الاتفاق. 

مع ذلك من المبكر الحديث عن انتهاء الاتفاق في هذا الموعد. فما زالت ثمة أصوات معتبرة في البيت الأبيض تدعم الاتفاق النووي، على رأس تلك الأصوات قادة البنتاغون، حيث أكد قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط الجنرال جوزف فوتيل في الثالث عشر من آذار/ مارس أمام لجنة في مجلس الشيوخ أنه ووزير الدفاع جيم ماتيس، وقائد أركان الجيش الجنرال جو دانفورد، يعتبرون الحفاظ على الاتفاق النووي مصلحة أمريكية. أما ليس مستبعدا أن يطيح ترامب بتلك الأصوات أيضا قبل أيار/ مايو.

اليوم بعد تصاعد احتمالات خروج الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي، ثمة أسئلة منطقية تراود الذهن، أهمها: ماذا بعد انهيار هذا الاتفاق؟ وما هو البديل الذي تفكر به إدارة ترامب؟ 

ففي حال حسمت موقفها وخرجت من الاتفاق النووي، لا ينهار الاتفاق فنيا، لكنه سينتهي عمليا. 

هنا ستعيد إيران انشطتها النووية إلى قبل تموز/ يوليو 2015، وترفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المئة وربما أكثر، حينئذ ستدخل القضية النووية الإيرانية دوامة ومسارا جديدا يصفر فرص الحل الدبلوماسي بعد إفشاله من واشنطن، ويفتح الباب على مصراعيه أمام الخيار الأكثر سوءا، أي الحرب.

أن يقرّر الرئيس ترامب الخروج من الاتفاق النووي بعد انتهاء المهلة في أيار/ مايو، دليل على أنه وبقية معادي الاتفاق في أركان إدارته يريدون حقا الوصول إلى هذا البديل المأساوي في ظل انعدام بدائل أخرى، الذي طالما دعا إليه جمهوريون متطرفون خلال العقد الأخير وفي مناسبات عدة، منهم مايك مومبيو الذي كان يدعو أثناء المفاوضات المنتهية إلى الاتفاق النووي إلى قصف المنشآت النووية الإيرانية بدلا من تلك المباحثات.

ومن جانب آخر، أوروبا التي كانت تُعوّل عليها في الحفاظ على الاتفاق النووي تتبع نهجا تصعيديا مريبا هذه الأيام مع إيران، وذلك بالتزامن مع تلك الرسائل الأمريكية الضاغطة على طهران. 

التصعيد الأوروبي يأتي في ملفات عدة، منها ملف الصواريخ البالستية الذي طالب الرئيس ترامب بضرورة إدراجه ضمن الاتفاق النووي للحد من القدرات الصاروخية الإيرانية، وكذلك ملف الدور الإقليمي الإيراني.

هذا التصعيد تعكسه خطوات أوروبية متعددة، منها، أولا، مشروع القرار الذي قدمته بريطانيا في 26 من شباط/ فبراير الماضي في مجلس الأمن الدولي في الاجتماع الخاص باليمن للتنديد بإيران، الذي أحبطته روسيا من خلال استخدام حق النقض، وثانيا، تصريحات حادة لقادة أوروبيين ضد إيران، منهم وزير الخارجية الفرنسي الذي زار طهران مؤخرا حاملا مطالب أوروبية حول تلك الملفات، ما لقى رفضا إيرانيا جاء على لسان رأس هرم السلطة في إيران، أي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي الخامنئي الذي أكد أن بلاده لن تقبل بالتفاوض على دورها الإقليمي مع قوى خارج الإقليم. 

وثالثا، تتحدث مصادر علمية بأن أوروبا تتجه نحو فرض عقوبات على إيران، تستهدف إقناع ترامب بمواصلة العمل بالاتفاق النووي.

وفي هذا الصدد، كشفت وكالة "رويترز" الجمعة الماضي، عن وثيقة سرية تؤكد أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا اقترحت فرض عقوبات جديدة من الاتحاد الأوروبي على إيران، بسبب برنامجها للصواريخ الباليستية، ودورها في سوريا، لضمان استمرار واشنطن ضمن الاتفاق النووي الموقع عام 2015.

وتسعى أوروبا اليوم من خلال هذا التصعيد والضغط على إيران استرضاء الرئيس الأمريكي، وإقناعه بالبقاء ضمن الاتفاق النووي، لكن ليس واضحا بعد إن كان ترامب يرضى بذلك دون التوصل إلى اتفاق تكميلي للاتفاق النووي مع طهران أم لا.

أما في حال لم يتم التوصل إلى هذا الاتفاق التكميلي الذي ترفضه طهران حتى اللحظة، وكذلك لم يعتبر ترامب الضغوط والعقوبات الأوروبية المحتملة على إيران كافية لإنقاذ الاتفاق النووي، لا يبدو أن أوروبا سوف تقف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية، وتذهب بعيدا للحفاظ على هذا الاتفاق، فهي اليوم بعد تطورات العلاقة مع روسيا بعد قضية "سيرجي سكريبال" بحاجة إلى الدعم الأمريكي أكثر من قبل، في مواجهة موسكو.

الخلاصة أن الآونة الأخيرة كانت حبلى بتطورات تجعل مواجهة إيران أولوية السياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة المقبلة، وتضع مستقبل الاتفاق النووي على كف عفريت.

مع ذلك، لا يمكن الجزم بأن نهاية هذا الاتفاق باتت محققا، فما زال أمامنا شهران قد تحدث فيهما مفاجئات، كتلك التي يشهدها ملف كوريا الشمالية هذه الأيام، الذي بعد تهديدات الزعيمين الأمريكي والكوري الشمالي بحرب نووية، فجأة هدأت الأوضاع، وبات الرئيسان يخططان للقاء تاريخي يجمعهما قبل نهاية أيار/ مايو.

التحدي الذي يواجهه ترامب في حال اتخاذه قرار الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران قبل لقائه بكيم جونغ أون، أنه سيفقد ثقة نظيره الكوري الشمالي بمستقبل أي اتفاق مع الأمريكان.