هناك في سوريا لم تترك الطائرات الروسية سنتيمترا مربعا دون أن تقصفه. على الجدران في كل مكان في سوريا ترى توقيعات رصاص حزب الله وآثار أقدام الحرس الثوري الإيراني.
شوارع المدن تحولت إلى حفر والمدن العامرة تحولت إلى خرائب وهذه الهياكل البشرية التي تلتصق جلودها بعظامها والتي لم يعد تعرف أصحابها ممكنا. خيوط الدماء التي تركها عامل دفاع مدني ما وهو يحمل جثمان طفلة جميلة الملامح ارتقت في قصف روسي أو قصف لطائرات بشار. كومات من الركام والجدران المتهدمة.
هناك حيث تقع في اليوم الواحد ألف حرب عالمية، في سوريا حيث باتت مشاهد القصف روتينا يوميا في حلب وإدلب والغوطة وغيرها، هناك ترى شعباً يتكالب عليه الشرق والغرب، رغم كل ذلك تجمعت تلك الوجوه النبيلة تقف في الغوطة أو في حلب، يرفعون لافتة تحمل اسم فلسطين.
فوق اللافتة التي يحملونها على الطريق المهدم بين الجدران المتداعية والغبار الذي يكسو كل ما حولهم وأزيز قصف الطائرات التي ربما مرت من فوق رؤوسهم منذ لحظات، تقرأ عبارة: القدس عاصمة فلسطين!
العبارة مكتوبة بصوت يكاد يتهدج.. نعم بصوت تسمعه متهدجا مهتزا وسط هذه الأكوام من الحطام.. القدس عاصمة فلسطين.. تسمع الصوت وترى صاحبه يكفكف دمعة أصرت على مغادرة محجري عينيه!!
هذه اليد المغبرة التي لا تهتز وهذه الملامح التي حفرتها عشرات القذائف ومئات الآلاف من الصرخات وملايين من ذرات الغبار المتخلفة عن قصف البراميل المتفجرة.
أطفال أصبح عمر الواحد منهم ألف عام، أرى لوعة حقيقية لا اصطناع فيها في هتافاتهم التي لا أسمعها.
هنا لا ترى من يرتدي كوفية فلسطينية ليتاجر باسم فلسطين على شاشة ما. هذه وجوه لم تمتلئ بطون أصحابها بأصناف طعام فاخرة بعد مؤتمر ما يقف في نهايته حاكم ما يرفع يده بشعار ما ليقول كلاما ما يحشر فيه اسم القدس وتعبيرات الغضب ترتسم على وجهه ليرفع نسب الأدرينالين عند المشاهدين.
الأيدي التي كتبت هذه العبارات تحب القدس حقا. لن تجد بينهم من يضع اسم فلسطين على لسانه ليخونها ألف مرة في غرف مغلقة. لن تجد من بينهم من يحدثك عن الحق الفلسطيني ثم يقف ليبيع فلسطين عند أول منعطف.
هؤلاء الذين يحبون القدس حقا لم يزرها أي منهم مرة في حياته لكنها محفورة حفرا غائرا في قلوبهم. لم يعبث أحد في مكونات فطرتهم، فلم يأبه أي منهم لقصف جوي هنا أو هناك وخرجوا يهتفون في الشوارع باسم القدس.
هناك يحبون فلسطين حقا ولا يتكلفون. هناك لا تسمع لحن القول فالقدس تعني القدس ولا معنى لها غير القدس فهذه الأيدي المغبرة والوجوه التي نحتتها سنوات المواجهة، لا تكذب.
لم ير ترمب هؤلاء وهو يعلن اعترافه بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" ولم يعرف بوجودهم، والأرجح أن مستشاريه لم يضعوهم حتى في حساباتهم. حتى نحن لم نعرف قبل أن نراهم أن هناك من يعشق القدس إلى هذه الدرجة.
لم أملك وأنا أرى هذه المشاهد من الغوطة أو حلب إلا أن اصارح نفسي من جديد بأني أحب سوريا وأهلها.
لم أملك وأنا أرى هذه المشاهد القادمة من سوريا إلا أن أزيح هذه الكآبة جانبا.
تهويد القدس مسنود بالثورة المضادة
في دعاية المطبّعين الجدد.. الدعم والكلفة!