تدور أحداث مسرحية "فيلم أمريكي طويل"، لزياد الرحباني، في مستشفى المجانين؛ خلال سنوات الحرب الأهلية مطلع الثمانينات. تخبرنا فصول المسرحية عن الأسباب التي أدت بساكني المستشفى للوصول إلى الجنون بعدما كانوا أناساً طبيعيين. يحكي أحدهم أنه كان يعمل محللاً سياسياً وكاتباً في إحدى أهم الصحف، فكان طبيعياً أن يقصده جيرانه وأقرباؤه لسؤاله عما ستؤول إليه الأوضاع، فكان صاحبنا يأخذ نفساً عميقاً، يرشف من فنجان القهوة الذي أمامه، ثم يسرد على سائليه بثقة رؤيته للمرحلة القادمة، ويدعم هذه الرؤية بالأدلة والقرائن واستشراف المستقبل الذي يُتقنه. المشكلة التي واجهت صاحبنا أن جميع توقعاته حصل نقيضها، فإذا تفاءل وقال لسائليه إن الأوضاع ستهدأ وأن الأمور ستكون بخير، تندلع الحرب والاشتباكات، وإذا تشاءم فيحذر من يسأله من وقوع حرب مدمرة تأخذ في طريقها الأخضر واليابس؛ كانت الأوضاع تعود للهدوء وتستقر الأحوال. استمر بصاحبنا هذا الحال فترة من الزمن، مما أفضى به الأمر في النهاية أن يكون في مستشفى المجانين.
الحال نفسه ينطبق على اللبنانيين اليوم. فقبل أسبوعين كان اللبنانيون، ومعهم جميع المحللين والباحثين، ينظّرون في مقابلاتهم ولقاءاتهم الإعلامية حول الشتاء الدافئ الذي يعيشه لبنان؛ في ظل التسوية التي تمّت قبل عام، وأن عجلة الدولة تسير على السكة الصحيحة، وأن لبنان أخيراً نجح بالخروج من لعبة المحاور الإقليمية، وأن التوافق والتناغم القائم بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء سيساهم بإيجاد الحلول للكثير من المشاكل التي استعصى حلها خلال عقود، وأن ما تم إنجازه خلال العام الأول من العهد الجديد هو جزء يسير من الإنجازات التي سيتم تحقيقها في السنوات الخمس الأخرى وأن... كل المؤشرات والقرائن كانت تقود إلى هذه الخلاصة، وقد تصدّر رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري؛ المشهد في أكثر من مناسبة للتأكيد على هذا الواقع الوردي، ولنفي كل محاولة لتعكير صفو هذا المسار. ووصلت إيجابية الحريري حد قيامه بوساطات للإصلاح بين وزراء متخاصمين أو بين شخصيات متنافرة.. كل ذلك في سبيل الحرص على الأجواء المستقرة، واستمرار سير عجلة الحكومة.
بعد انقلاب سعد الحريري (الرياض) على سعد الحريري (بيروت)، يعيش المحللون السياسيون والخبراء والباحثون صدمة
اليوم، وبعد انقلاب سعد الحريري (الرياض) على سعد الحريري (بيروت)، يعيش المحللون السياسيون والخبراء والباحثون صدمة شبيهة بالصدمة التي أصيب بها صاحبنا في مسرحية زياد الرحباني. مشكلة هؤلاء لا تتعلق فقط بأن كل توقعاتهم وتحليلاتهم وتنظيراتهم طوال عام ثبت خطؤها وحصل نقيضها، بل تكمن أيضاً في أنهم لا يدركون ما تحمله قادم الأيام، ويقفون عاجزون أمام أي سؤال يتعلق بما ستؤول إليه الأمور في المستقبل.
فكما كانت استقالة الحريري خارج التوقعات، من المحتمل أن تكون مجريات المرحلة المقبلة كذلك خارج التوقعات. والصدمة الأولى التي تلقاها المحللون باستقالة الحريري المفاجئة لا تحتمل صدمة أخرى ربما تكون سبباً لأن يكون مصيرهم كمصير صاحبنا في مستشفى المجانين.
كما كانت استقالة الحريري خارج التوقعات، من المحتمل أن تكون مجريات المرحلة المقبلة كذلك خارج التوقعات
هل يمكن مكافحة الفساد بطريقة فاسدة؟
العدو الاستراتيجي لا يزال في فلسطين
"سعد أحمد عبد ربه شفيق هادي الحريري"!!