مقالات مختارة

الديموقراطية العربية: انتحرت أم نُـحرت؟

1300x600
يكثر الحديث هذه الأيام عن حلول وتسويات ووضع حد للحروب ضمن مسمّيات مختلفة تحمل ألف علامة استفهام، ولكن السؤال المنطقي والمؤلم يدور حول المستقبل، فهل هناك من مستقبل أو أمل بحياة حرة وكريمة؟

يبدو أن حلم العرب بالحرية والديموقراطية والعدالة صار بعد السنوات الخمس الأخيرة وزلازلها يشبه حلم إبليس بالجنة، فشعوبنا مكتوب عليها قلة الراحة والحرمان من الأمن والأمان، والعيش تحت سيف العنف والظلم والإرهاب والقلق والخوف، وكأنها بطلة في فيلم من أفلام ألفرد هيتشكوك الشهيرة بالإثارة والرعب، وفي مسلسلات النواح والدم والدموع.

فكلما لاح في الأفق شعاع نور وأمل خطفته أيدي الظلم والظلام وحولت حياة الشعوب ليلا دامسا حالك السواد. وكلما وقع حدث تفاءلت به خيرا، فإذا به يتحول كابوسا. وكلما جاء «فارس» مزعوم على حصان مزيف هللت له ورأت فيه المنقذ البطل المغوار، وعلقت على عاتقه الآمال ومنحته ثقتها وحبها، وسلمته رقبتها وزمام أمورها وحاضرها ومستقبلها، بادلها الحب بالإهمال والاستخفاف وحمل معاول الهدم ليحطم المؤسسات ويقمع الحريات وينتهكها، ويعطل المؤسسات ويطلق العنان للفاسدين والمفسدين ليسرحوا ويمرحوا بلا حسيب ولا رقيب.

هكذا عاش العرب على مدى العصور والعهود حالة ضياع وأوهام ووعود وسراب أمل ضائع في تيه صحراء السياسة الخاطئة، وقهر السلطة وغياهب جهالة فكرية وخداع خبيث، يشرب من دم الشعوب ويفترس لحومها وينتهك عذريتها ويسلبها إنسانيتها ويأكل حقوقها، ثم يرحل ليبدأ صراع جديد ويجري وضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما: إما السيئ أو الأسوأ.

ومن خلال التجارب المريرة التي مرت فيها الدول العربية، لا سيما في السنوات الأربع الماضية، تحول الربيع الضاحك إلى خريف عاصف باكٍ، وضاع الأمل بتحقيق ولو الحد الأدنى من الديموقراطية الموعودة، في أي شكل من أشكالها وفي أي مبدأ من مبادئها، مثل الحرية والعدالة والمساواة والحقوق الطبيعية لأي إنسان.

حتى الحق لا مكان له من الإعراب في حياة العرب، فهو ضائع في متاهات الظلم والتفرد والاستبداد والفساد، ولم يبق منه سوى حلم يراود مخيلتهم سرا؛ خوفا من قراءة أفكارهم بعد أن تحوّل في بعض الأحيان كابوسا لينطبق على الشعوب المثل القائل، إنها «أصبحت لا مع ستها الديموقراطية بخير، ولا مع سيدها الحاكم بخير».

كل الدول تمتع الشعوب بشعارات الحرية والعدالة والمساواة وتضع القوانين اللازمة لحمايتها وضمان تحقيقها والالتزام بأحكامها، ومن بين هذه الشعارات التي تحمل ألف معنى ومعنى الشعار الرسمي الملكي البريطاني القائل: «ربي وحقي» mon dieu et mon droit.

وقد عاش العرب خلال قرن من الزمان على الوعود البراقة والشعارات الوهمية، فناموا «في العسل» وحلموا بحياة كلها استقرار وأمن وأمان وتكافؤ فرص وسيادة القانون، لكن أيّا منها لم يتحقق، بل جرت الرياح عكس ما تشتهي سفنهم وسار المركب ضد التيار؛ فاشتد الظلم وضاعت الحقوق في خبر كان.
ثورات وانقلابات وحروب هللت لها الشعوب ورأت في قادتها أبطال الإنقاذ والإصلاح، ومع الأيام تبخرت آمالها وكان كلام الليل يمحوه نهار الواقع المرير لتعود «حليمة الحاكمة» إلى عادتها القديمة، وزادت عليها الكثير من عمليات القمع والتضييق والانتهاكات، لتمضي الأوضاع من سيئ إلى أسوأ وصولا إلى حافة الهاوية.

فرح العرب بالاستقلال وجلاء قوات الاستعمار وعاشت الدول العربية في فترة الخمسينيات شهر عسل يشبه قصص الأساطير؛ ازدهار واستقرار ونمو وبناء على أسس سليمة للبنى التحتية وانتخابات وأحزاب ومجالس نيابية، وتداول للسلطة ونقابات ومنظمات أهلية فاعلة وصحف حرة، كما برزت شخصيات وطنية وفكرية وزعامات شعبية لها وزنها العربي والعالمي، لكن سرعان ما أجهضت التجربة وسحقت أقدام الثورات المزعومة والانقلابات المشبوهة أزهار الحرية وسرقت الحلم الوردي.

كلما جاء حاكم حطم خصومه، وكلما أتى نظام فكك أسس النظام الذي سبقه، وكلما استأثرت فئة بالحكم «لعنت أختها»، فسادت الأنظمة الديكتاتورية والفردية وتحكمت بمصائر الشعوب. وهكذا خربت الأيدي المتوالية كل ما طالته من بشر وحجر فهدرت الثروات ودُمّرت المؤسسات وأولها مؤسسة الجيش وقوى الأمن عبر التسريحات والاعتقالات.

كما هُجِّرت الأدمغة والأيدي العاملة الماهرة وأصحاب الاختصاص والخبرات وفُرِّغت البلاد من الركائز السياسية والوطنية في فرز مدروس، وكأنه تم في سياق مؤامرة خبيثة، وصلت إلى آخر فصولها أخيرا عبر الحروب العبثية والاضطرابات؛ تمهيدا للتقسيم والتفتيت. كما ضربت الطبقة الوسطى التي تعتبر الركيزة الأساسية لأي مجتمع ومصدر الثراء الفكري والثقافي والفني والاجتماعي والاقتصادي، بوصفها المحرك لكل نشاط خلاق، فتحولت معظم المجتمعات العربية إلى صراع خافت بين طبقتين لا ثالث لهما: طبقة الفقر المدقع وطبقة الثراء الفاحش.

وعندما أطل الربيع بكل ما يحمله من آمال عريضة، تفاءل العرب خيرا بأن رحلة الألف ميل نحو الحرية والفرج انطلقت، فإذا بهم يواجهون الصدمة تلو الصدمة، فقد كانوا يعانون من القمع والتهجير ومنع التفكير، فصاروا يواجهون بقمع مجنون وتهجير أشد مرارة وظلامية، تسلب العقول وتحد من حرية التنفس وتعاقب من يرتكب «جريمة» التفكير بعقوبة التكفير، فزادت هذه الممارسات «الطين بلة» وجرى تدمير ما بقي من ركائز وأسس وبنى تحتية.

تعلمنا من قبل أن الديموقراطية هي حكم الشعب من الشعب إلى الشعب، كما آمنا بأن الحرية هي أوكسجين الشعوب لا تتنفس إلا به وأن القانون هو سيد الأحكام، لا فرق بين غني وفقير ولا كبير وصغير أو حاكم ومحكوم، فالجميع سواسية أمام قوس العدالة، لكن الواقع يدلنا على أن العرب كتب عليهم الحرمان من أبسط حقوق الإنسان، ولو من حيث الشكل، وأنهم في كل مرة يتخلصون فيها من ظالم يبلون بأظلم، عاكسين مقولة «وما من ظالم إلا ويُبلى بأظلم».

وهنا، لا بد من أن يبرز سؤال جوهري، وهو: هل العلة في الشعوب أم في الحكام؟ أم إن سببها المؤامرات الأجنبية كما نظن؟ وهل الديموقراطية في بلادنا انتحرت بعدما فقدت الأمل بالحياة في ديارنا العامرة؟ أم إنها نُحرت بأيدينا بعدما ضُربنا من بيت أبينا، وبأيدي الآخرين من الطامعين والأعداء والمتآمرين؟

هذه الأسئلة تحتاج إلى مقال آخر للإجابة عنها، لكن من يطّلع على تجارب الدول العربية في الخمسينيات يمكن أن يضع يده على أولى مؤشرات الحقيقة، إن كان في سوريا التي عاشت عصرها الديموقراطي الذهبي، أو في مصر والعراق وليبيا في عهودها الملكية، ثم في السودان الذي شهد واحدة من أهم التجارب الديموقراطية قبل كوارث الانقلابات العسكرية. وحتى الكويت عاشت عرسها الديموقراطي لسنوات قبل أن تذبح العروس بأيدي التعنت والصراع المذهبي والرغبة في الظهور والمناكفات والحساسيات، وظاهرة الاستجوابات والتباهي بإسقاط الحكومات إلى أن انقض الغزو العراقي على ثمار هذه التجربة.

ومن يقرأ التاريخ ويراجع السجلات والوثائق المنشورة، ومنها ما كان سريا، ومن يتابع مذكرات السياسيين والمثقفين يمكن أن يجيب عن هذه الأسئلة المتعلقة بالانتحار أو النحر، ويضع يده على موطن العلة ويشير بإصبعه، إن لم يُقطع سلفا، إلى الجهات التي سحقت الأحلام.

إنها بداية الطريق نحو البحث عن الحقيقة قبل أن يغرق المركب وتعمّ ثقافة التقسيم والتفتيت والتهجير والتكفير، وينجح المغرضون في هدم الهيكل على رؤوس العرب جميعا، ويمضي الصهاينة في بناء هيكلهم المزعوم على أطلال المسجد الأقصى المبارك، لعلنا ندرك قبل فوات الأوان أن إسرائيل هي المستفيد الأول والأخير من كل ما جرى ويجري من ارتكابات وأخطاء وخطايا خلال قرن من الزمان، وأن من يتحمل أوزارها ومسؤوليتها هم كل من شارك فيها وساهم في إيصال أحوال الأمة إلى ما وصلت إليه، فما من أحد بريء من دم شعوبها المنكوبة، والله يُمهل ولا يُهمل.

الحياة اللندنية