في مصر المنكوبة بنخبها قبل عساكرها، يتصور أحدهم أنه ماض في إسقاط الانقلاب مهما كلفه ذلك من دماء غيره، وفي غزة إسماعيل هنية ورجاله، قرروا ممارسة السياسة، ولو كلفهم ذلك تجرع السم، كي لا يتجرع الغزاوية مرارة شظف الحياة!
ما حدث هو أن غزة تعاني، لا ماء، لا كهرباء، لا خدمات، الإخوان هزموا، وانقلب عليهم الجيش، خسروا حلفاءهم الإقليميين، وحدهم، لا مجال للتقدم، لا مجال للاستمرار، التسوية أو الانتحار، حماس اختارت السياسة والحياة فيما اختار دراويشنا الخروج من الزمن!
تراجعوا ولم يهربوا، انسحبوا ولم يفروا، تفاهموا ولم يتواطؤوا، اعترفوا بعجزهم ولم يعاندوا، كان لديهم من المسوغات الأخلاقية والسياسية ما يحملهم على الاستمرار، ولا لوم عليهم "نظريا"، لكن الاستمرار كان يعني الدمار للقطاع وأهله، حماس اختاروا ناسهم ولو على حساب سمعتهم، ومصالح حلفائهم الذين لم يسعفوهم حين احتاجوا إليهم!
عندنا لا يملك أحدهم سيف عنترة ولا بيانه، لكنهم مصرون، ماضون، مكملون في عنترياتهم إلى آخر نقطة دم تجري في عروق الشباب، ليس هذا فحسب إنما هم أيضا يزايدون على حماس وموقفها الواقعي ويعتبرونه نكوصا وتراجعا وفرارا وانبطاحا إلى آخر معجم الحالات الخاصة!!
ما يحدث الآن في غزة ليس في مصلحة قادة حماس، ولا القضية، وليس في مصلحة الغزاوية على المدى الطويل، إلا أن الاستمرار في مقاومته بلا إمكانات ولا حلفاء كان كفيلا بالقضاء على القطاع وأهله ومن يحكمونه قتلا واعتقالا وتشريدا وموتا من الجوع والعطش، حماس اختارت أخف الضررين بمنطق سياسي محض، لا دروشة فيه ولا ادعاء، ولا خواطر لأحد!
أخطأت حماس حين تركت موقع المناضل إلى موقع السياسي، لكنهم أثبتوا – حين غادروا ولم يغدروا – أنهم أهل لكليهما، ولا عزاء لمن لا نضال له ولا سياسة ولا عقل ولا شيء سوى العدم!!
أولى بمروجي المخدرات أن يتعلموا من درس حماس أن الانسحاب وقت الانسحاب قوة، أولى بهم أن يتعلموا أن اتخاذ القرار المناسب في وقته هو السياسة بألف ولام العهد، وليس الاستمرار في ترديد شعارات لا محل لها من الواقع، يضيع ضحيتها مساكين يصدقون ويبذلون حياتهم فداء للا شيء.
احملوا مخدراتكم وانصرفوا، أو توقفوا عن بيعها وابحثوا عن تسوية لائقة، من أجل آلاف المشردين في بلاد الله الذين لا تؤويهم عواصم أوروبا، ولا يجدون سقفا وحوائط أربعة في شتاء الغربة القاسي، أكرم لكم ألف مرة أن تبحثوا عن أجنحة تشارككم بعض السخط داخل النظام بدلا من أن تتفاخروا بإهمال الوساطات التي تأتيكم كأنها مدعاة للفخر وهي – والله – مدعاة للرثاء والإشفاق على أحوالكم!
أقول ذلك، وأنا أعلم أنه لن يصادف سوى آذان لا تسمع، وأعين لا تبصر، وقلوب وعقول ملتها أقفالها، لكنه الأمل في "فلتة" ، تنفيسة، انفراجة، عسى الله أن يخرج من "أظلافهم" من يفهم أو يعقل!
أما حماس، فهذا ليس نهاية المطاف، ولا هي نهاية التاريخ، لم يضع الحمساوية أسلحتهم، لم يعترفوا بإسرائيل، لم يختاروا السلام الدافئ، لم يكونوا يوما ظهيرا للظالمين، بل أجبروا، فلم يكابروا، وهذا يحدث في السياسة مع الكبير والصغير، سبقتهم إليه أمم وشعوب ودول أكثر قوة ومنعة وتسليحا، ومع ذلك حين علا الموج مروا من تحته، حماس ليست السيسي، وليسوا حزب النور، وصور السيسي في القطاع التي داستها الأحذية بعد أن أخذ الإعلام المصري "اللقطة"، وحوارات عمرو أديب وزوجته مع قيادات حماس، ليست سوى مرحلة من عمر الصراع، وغدا لناظره قريب!