لم تكن التحولات التي تشهدها حركة
حماس وسياساتها تجاه
المصالحة، وتجاه العلاقة مع دحلان وحلفائه الإقليميين وعلى رأسهم مصر، وليدة اللحظة. ولا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال تغييرات دراماتيكية كما يحلو للبعض تسميتها، كما لا يمكن النظر إليها كمجرد ارتداد للتغييرات الأخيرة في تشكيلاتها القيادية من حيث تركز القيادة في قطاع غزة بعد تسلم إسماعيل هنية لرئاسة الحركة في انتخاباتها التي أجريت قبل أشهر.
صحيح أن هذه العوامل كلها لعبت دورا في ما يجري الآن، إلا أن كل هذه التغيرات ما هي إلا مرحلة من رحلة طويلة لأزمة المشروع الوطني الفلسطيني التي تعمقت بشكل جذري بعد أوسلو، وزادت تعقيدا بعد دخول حماس للسلطة.
هذه الأزمة أيضا هي ليست أزمة حماس فقط كما يريد بعض خصومها المحليين والإقليميين أن يروها، بل هي أزمة المشروع الفلسطيني ككل، وأزمة المنطقة العربية الرخوة التي فقدت تماسكها بخسارة قوة ومحورية أهم الدول المركزية فيها: مصر، سوريا والعراق.
وبالتركيز على الجانب الفلسطيني بالأزمة، فإن أوسلو استطاعت تحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني فقط، قبل أن "تقزّمه" ليصبح مجرد نزاع بين "كيانين" جارين، بدلا من أن يكون صراعا بين شعب مصادر مضطهد وخاضع للاحتلال وبين دولة كولينيالية احتلالية ترتبط ارتباطا عضويا بالمشروع الاستعماري للمنطقة.
دخلت حركة فتح باعتبارها قائدة المنظمة ابتداء في هذه المصيدة، وتبعتها سريعا فصائل المنظمة "المعارضة"، قبل أن تدخل حركة حماس في نفس المأزق بعد مشاركتها في انتخابات 2006 تحت سقف أوسلو.
لسنا هنا بصدد مناقشة مأزق أسلو، وكيف ولماذا دخلت كل الفصائل الفلسطينية فيه طوعا أو كرها، فهذا أمر بات معروفا إلا لمن غطت عينيه غشاوة الأيدولوجيا والفصائلية. ولسنا أيضا بصدد "التنظير" لفشل مشروع السلام مع دولة الاحتلال، فهذا الفشل بات محل إجماع واتفاق واعتراف حتى لدى صانعيه وأشد المدافعين عنه، وعلى رأسهم محمود عباس، ولكن المهم الآن هو البحث في إجابة السؤال عن كيفية الخروج من المأزق، وإعادة الروح للمشروع الوطني الفلسطيني.
ويبدو هذا السؤال عصيا على الإجابة عند جميع المعنيين في ظل انسداد الأفق في فلسطين والمنطقة والعالم ككل، كما أن ادعاء وجود "كاتالوج" جاهز للخروج من المأزق هو محاولة للتغافل عن الحقائق لا أكثر، بعد أن دخلت القضية في نفق لا يشبهه سوءا حتى أكثر مراحل النضال الفلسطيني بؤسا بعد خروج المقاومة من بيروت عام 1982. ولكن ذلك لا يعني بحال أن قدر الشعب الفلسطيني محصور الآن بالاستمرار في ملهاته السوداء دون البحث عن مخارج، ولو كانت تكتيكية، للأزمة.
إن أولى خطوات المحاولة للخروج من المأزق هي الاعتراف به وبمسبباته، والمقصود هنا اعتراف فتح بخلقها للأزمة بدخولها في مشروع أوسلو الكارثي، واعتراف اليسار بأزمته وغيابه التام عن الفعل، واعتراف حماس بفشل "نموذج" الجمع بين المقاومة والسلطة أو "الديمقراطية" تحت الاحتلال الذي لا زالت قيادات الحركة تتغنى به حتى اليوم رغم وضوح هزيمته! واعتراف الفصائل التي ظلت خارج هذا المسار مثل حركة الجهاد بأنه لا تمتلك مشروعا بديلا حقيقيا خارج إطار الشعارات.
ليعترف الجميع بفشل نموذجه كما بات ظاهرا للعيان، وعندها فقط يمكن البدء في البحث عن البدائل والحلول خارج كل هذه النماذج التي هزمت لأسباب موضوعية وذاتية كثيرة، بعضها يتعلق بمكونات المشروع الفلسطيني وبعضها الآخر يتعلق بأزمة العرب وانعدام التوازن الإقليمي والدولي.
فكيف يمكن للمشروع الوطني أن يخرج من مأزقه في وقت لا يزال فيه كل مكوناته يبحثون داخل مربع نموذجهم الفاشل؟ وكيف يمكن للحل أن يبدأ في وقت تتحدث فيه جميع هذه المكونات عن رؤية لا يمكن قراءتها إلا من زاوية "إدارة الأزمة" عبر اتفاقية مصالحة قد لا يصمد كسابقاتها من الاتفاقات، وحتى إن صمدت فهي مصالحة تحت سقف أوسلو الذي أعطى لتل أبيب احتلالا ثمنه "صفر"، مع مراكمة دولة الاحتلال لمكاسب عظيمة من عمل الفلسطينيين تحت هذا السقف؟.
لقد تحولت مبادرات الحل والمصالحة منذ 2006 وحتى اليوم إلى مبادرات لحل الإشكال الفلسطيني الداخلي، بدلا من حل أصل الصراع مع المحتل، ولهذا فقد كان الغائب الرئيسي في كل اتفاقات المصالحة منذ الانقسام هو "الاحتلال" وكيفية إدارة الصراع معه، وبذلك أصبحت القضية الفلسطينية مختزلة بكيفية تأمين الرواتب وإدارة السجن الكبير المسمى زورا وبهتانا بـ"السلطة" سواء كان ذلك في الضفة الغربية أو غزة التي يجب أن يتوقف الجميع، وخصوصا حماس، عن بيع الوهم والاعتراف بأنها ليست محررة ما دامت تحت السيطرة الإسرائيلية بحرا وجوا وتحت سقف أوسلو ومعابر مصر وإسرائيل برا.
لا يمكن اليوم أن يعود الصراع إلى أصله، إلا إذا اتفق الفلسطينيون على أن معادلة الاحتلال "بثمن صفر" يجب أن تنتهي. وحتى يتم ذلك فإن الخروج "الراشد" المحسوب من أوسلو هو الحل الوحيد.
ولكن هل يمكن أن يحصل ذلك في ظل الاختلال القاتل لكل الموازين الفلسطينية والإقليمية والدولية؟ الإجابة التي نأخذها من تاريخ حركات التحرر من الاحتلال هي "نعم"! ولكن هذه الـ"نعم" تحتاج إلى إجماع فلسطيني، وعلى إدراك بأن الشعب وعلى رأسه كل الفصائل يجب أن تكون مستعدة لدفع الثمن، كغيرها من الشعوب والحركات الثورية للشعوب التي وقعت تحت الاحتلال عبر تاريخ البشرية.
وبتخصيص أكبر وبعيدا عن العموميات فإن الخروج من المأزق الفلسطيني ليس له سوى مسار واحد: الإعلان عن أن غزة لا تزال تحت الاحتلال مثلها مثل الضفة الغربية والقدس، وإعلان السلطة أنها تخلت عن أوسلو وأن دورها محصور بالإدارة المحلية والبيروقراطية الفلسطينية، وأن المسؤول عن المشروع الوطني سياسيا ونضاليا هو منظمة التحرير المنفصلة تماما عن السلطة والتي تضم جميع فصائل وأبناء الشعب الفلسطيني بما فيهم فلسطينيو الداخل المحتل منذ 1948 وفلسطينيو الشتات، وإعلان مشروع استراتيجي للمقاومة الشعبية الشاملة الحقيقية المبرمجة زمنيا وعملياتيا.
إن هذه الخطوات جميعها تتوافق تماما مع القانون والمواثيق الدولية، وفي نفس الوقت فإن ثمنها على الشعب الفلسطيني هو أقل بكثير من البقاء تحت سقف أوسلو ومن المقاومة المسلحة أو الفردية أيضا، وهو بالتأكيد سيحمل دولة الاحتلال ثمنا لاحتلالها وسينهي "رفاهية" الاحتلال غير المكلف سياسيا أو أمنيا أو حتى على مستوى تماسك الجبهة الداخلية لتل أبيب.