في الغرب... ترتبط العلمانية بالتحرر، فهي نتاج مجتمعات حكمتها الكنيسة عقودا طويلة، ثم ثار الناس على تلك المنظومة الحاكمة بسبب فسادها وظلمها، وقرروا أن يصبح الإنسان حرا، وأن لا سلطة للسماء على أهل الأرض.
حرية الإنسان من سلطة السماء تعني من باب أولى أن يتحرر من طواغيت الأرض، وبالتالي أصبحت المرجعية للشعوب، والشرعية للناس، والحاكم مجرد موظف، وكيل، أجير لدى الأمة التي انتخبته لمنصب معين، لفترة محددة، بشروط معروفة، ضمن منظومة متفق عليها، وهي تراقبه، وتحاسبه، وتعاقبه إذا اقتضى الأمر حين يخل بالاتفاق.
العلمانية في بلادنا العربية تعني أن يأتي حاكم مستبد ليفرض العلمانية بقوة السلاح على شعب لم يستشره أحد في الطريقة المثلى للحكم، فهي تحرر المرء من سلطة السماء وتضعه رهينة عند طواغيت الأرض ... بل أسوأ (كما سيتضح)!
العلمانية في الغرب منتج بشري رضي عنه غالبية المواطنين، مرّ باختبارات حياتية، أدّت إلى توافق عام عليه، وأدت إلى تطوره مع مرور الوقت ... أما العلمانية في الدول العربية فهي منتج "مستورد"، فرضته النخب بالقوة، بدون أي عملية إقناع للشعوب، وليس ذلك أسوأ ما في الأمر ... بل الأسوأ أن هذه النخب ليست مخلصة لعلمانيتها، فهي علمانية انتقائية تتحيز ضد دين بعينه، فترى هذه النخب كارثية إقحام المسجد في السياسة، ولكنها تقبل بصدر رحب بوجود الكنيسة كحزب سياسي ... بل كتنظيم سري يملك كل مقومات الدولة المستقلة، ابتداء من الأرض والمباني التي لا تستطيع الدولة أن تعرف ما يجري خلف أسوارها ... إلى الميزانية التي لا يعرفها أي أحد، مرورا بولاء طائفة بعينها ولاءً ينافس الولاء للدولة والعلم.
(سيقول البعض "ليس جميع العلمانيين العرب كذلك"، وهذا صحيح ... ولكني أزعم أن جزء كبيرا منهم كما وصفت، للأسف !)
* * *
سؤال: هل معنى ذلك أن نرفض العلمانية لمجرد أنها منتج غربي؟
الحقيقة إن الديمقراطية (بشكلها الحالي)، والدولة الحديثة بمؤسساتها وتركيبتها، وكذلك الأنظمة الدولية ... كلها منتجات غربية (في مجملها) !
وأعتقد أن المشكلة الحقيقية في مسألة (علمنة) الدول والمجتمعات العربية ليست في كونها منتجا غربيا، بل تتلخص في مشكلتين: الأولى: أن هناك مسافة كبيرة بين أفكار النخب التي تدعو للعلمانية وبين الغالبية العظمى من الشعوب (بشتى طبقاتها الاجتماعية وتنوعها الفكري).
فهذه النخب لم تتمكن من إقناع كتلة حرجة من الشعوب بأن العلمانية فيها حل لمشاكلهم، أو فيها تقدمهم ورخاؤهم.
والمشكلة الثانية: أن غالبية النخب التي ترى العلمانية حلا لمصائب أوطاننا غير مخلصة لفكرتها العلمانية كما ذكرت!
إنهم علمانيون مستبدون، علمانيون لا يقدسون الحرية، فهم على استعداد لمؤازرة السفاحين، وتأييد الظالمين، والتصفيق لرجال الدين... شريطة أن يحقق ذلك مصالحهم (بالطبع هناك استثناءات كثيرة، ولكني أتحدث عن التيار الغالب).
هذا الكلام ينطبق على سائر التيارات، فكما لا نملك علمانيين مخلصين، لا نكاد نجد يساريا مخلصا ... في مصر على سبيل المثال رأينا "يسارا" يتحالف مع "نجيب ساويرس" رمز الرأسمالية الانتهازية المتوحشة، ويؤيد بيع القطاع العام، ويصفق لما يوصف بـ"الرأسمالية الوطنية"!
والأمر نفسه ينطبق على غالبية الإسلاميين ...!
أعطني سياسيين مخلصين لأفكارهم ... وسأعطيك مشروعا وطنيا متماسكا، قابلا للتطبيق على الأرض، يستطيع أن يزيح الطغاة من فوق عروشهم المهتزة، وأن يتحدى العالم كله، وأن ينتصر على المؤامرات الخارجية والتحديات الداخلية.
المشتركات الوطنية موجودة، ولكن المشكلة في الانتهازيين – من سائر التيارات – الذين يفسدون كل شيء، فتتحول الثورة إلى سبوبة، والانتخابات إلى بيزنيس، والأحزاب إلى شركات خاصة، والسياسة إلى نجاسة، والصحافة إلى سب وقذف.
* * *
العلمانيون العرب حين تحيزوا للانقلابات العسكرية – باسم مقاومة الفاشية الدينية – لا هم حموا الدولة المدنية، ولا هم منعوا الفاشية الدينية ! بل رأوا أنفسهم بعد ذلك أمام أنظمة عسكرية توظف الدين في السياسة بحكم أنها (رجعية يمينية) أكثر مما يفعل التيار الإسلامي نفسه ... ولا فرق في ذلك بين علمانية البراميل المتفجرة بقيادة بشار الأسد، أو علمانية التصفيات الجسدية بقلم عبدالفتاح "سيسي"، ولا علمانية أبناء فاطمة بختم دولة المؤامرات العربية المتحدة.
قد يقول قائل إن وصف هذه الأنظمة (مثل نظام "سيسي" وبشار وعيال زايد) بالعلمانية ليس دقيقا، ولا دليل عليه، والحقيقة أن هذه الأنظمة تقدم نفسها للغرب بهذا الشكل ولا شكل غيره، وهذا ثابت منذ سنوات، وبالغت هذه الدول بتقديم نفسها كبديل علماني تقدمي لأنظمة إسلامية رجعية بعد بدء ثورات الربيع العربي، بل إنها بدأت تصرح بذلك علنا، كما حدث من سفير الإمارات "العتيبة" في محطات التفلزة الأمريكية!
جميع هذه الدول تعيش حالة من حالات الاستبداد التي قلّ أن يوجد لها نظير في التاريخ ولكنها تدعي مقاومة الدولة الدينية وتتزين بوشاح العلمانية (هكذا تزعم) !
حين حكم الإخوان المسلمون لم يُسحل الناس من المقاهي في نهار رمضان إلى السجون بدعوى المجاهرة بالإفطار ... لم يحدث ذلك حتى في عهد مبارك المخلوع، لم يحدث ذلك إلا في عهد استبداد يرى نفسه حاميا لعلمانية الدولة، مقاوما للفاشية الدينية وإرهابها الذي يفتك بالدول المدنية والشعوب المسكينة.
وحين حدث ذلك لم يتمكن أحد من الاعتراض، ولم يتحدث أحد عن فاشية دينية، ولا عن حرية المعتقد، ولا عن الدولة المدنية ... فالسكين على رقبة كل صاحب رأي، يتساوى في ذلك الإسلامي والعلماني.
من هذا المنطلق ... قرأت الفتوى الأخيرة التي صدرت في تونس، متعلقة بمسألة المواريث ...!
وهذا ما سأكمله في الأسبوع القادم إن شاء الله.
عبدالرحمن يوسف
موقع الكتروني : www.arahman.net
بريد الكتروني : arahman@arahman.net