تطورات حوارات المصالحة بين حركتي فتح وحماس في القاهرة يُقال إنها كبيرة، هكذا يبدو الأمر حتى اللحظة، والدعوة للانتظار لاستكشاف ما تسفر عنه الأيام من إمكانيات صمود الاتفاقيات الأخيرة برعاية مصرية أمر لازم، فهذه الاتفاقية، أو التفاهمات، ليست الأولى.
لكن الأهم -مما يدعو للانتظار- هو أن العقدة في صراع الفصيلين لم تكن ما سمّته حماس "اللجنة الإدارية" والتي أنشأتها إما لملء الفراغ مكان ما سمّي بـ "حكومة الوفاق الوطني" المُشكلّة على أساس اتفاق سالف بين الحركتين، أي اتفاق الشاطئ، أو لاستخدامها ورقة في المناورة مع حركة فتح، أو للغرضين معًا.
ربط الرئيس محمود عباس إجراءاته الأخيرة بحقّ قطاع غزة؛ بلجنة حماس الإدارية، وتمسّكت هذه الأخيرة بلجنتها، بما ظهر من بعد التفاهمات الأخيرة، وكأنّها كانت تُعدّ فخًّا للرئيس محمود عباس، فإنّها وبعد أن حَلّت اللجنة من مصر، لم تُبقِ للرئيس ذريعة للتمسك بإجراءاته، ولكن ما يغيب عن الحسبان هنا، أن اللجنة الإدارية وضعها الرئيس مقابل الإجراءات، لا مقابل المصالحة، وما يجري الآن هو التفاهم على إتمام المصالحة الموعودة منذ أكثر من عشر سنوات.
لعل الرئيس اتخذ تلك الإجراءات تحسّبًا من تحولات يجري الإعداد لها في الإقليم؛ كان قد علم بها بشكل أو بآخر، أو من هجمة "ترامبية" تسعى، بالتفاهم مع حلفاء إقليميين، لفرض وقائع جديدة في المنطقة، بما في ذلك القضية الفلسطينية، ولم يكن خافيًا أن محمد دحلان، الخصم الفتحاوي القويّ للرئيس، قريب من بعض أهم أركان ذلك التحالف الإقليمي، الذي يسعى للتطبيع مع "إسرائيل"، ويقيم علاقات خاصّة بترامب وعائلته.
غزّة المحكومة من حماس، هي الفرصة الوحيدة المتاحة التي يمكن منها تدبّر حماية ما للنفس من ترامب وحلفائه الإقليميين، ولكن –وبطبيعة الحال- ليس بالمصالحة معها، وإنما بتشديد العقوبات عليها، وبهذا تُغرّد السلطة الفلسطينية من رام الله داخل السرب الذي يجري تكوينه، وعلى طريقتها الخاصة، ودون أن تستعدي أحدًا من الفرقاء الإقليميين، باختصار أرادت السلطة من إجراءاتها العقابية على غزّة حماية نفسها من التطورات الإقليمية المستندة إلى مجيء ترامب إلى البيت الأبيض.
هناك الكثير مما يمكن أن تربط الإجراءات العقابية نفسها به، ولكن ذلك الكثير كلّه قديم، وثمة حاجة لذريعة جديدة؛ كانت في اللجنة الإدارية التي عُلّقت عليها تلك الإجراءات خطابيًّا، وبهذا كان يمكن أن يؤدّي حلّ اللجنة الإدارية إلى رفع تلك العقوبات، لا إلى إتمام المصالحة، ولكن الذي حصل هو العكس، أي الدفع بالمصالحة إلى الإمام، وفي واحدة من عواصم التشكّل الإقليمي الترامبي الجديد، أي القاهرة، أي في واحدة من العواصم التي أرادت السلطة أن تحمي نفسها منها بإجراءاتها تلك ضدّ غزّة.
هذا من جهته يفتح على إمكانية أن يكون ترتيب المصالحة الأخير في القاهرة، مرتبطًا بإرادة أمريكية إسرائيلية، يمكن الاستدلال عليها بقول الدكتور موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي لحماس "إن الفيتو الأمريكي الإسرائيلي عن المصالحة قد رفع"، ولكن سيرورة الحدث نفسه، إن تمّ، ولو إلى حين، تشير إلى ذلك، ولاسيما أن القاهرة في زمن عبد الفتاح السيسي، لا تملك إرادة مستقلة.
ثمة جملة من التحليلات تذهب إلى أن التحول في الموقف الأمريكي الإسرائيلي يستند إلى خطة ترامب الجديدة للتسوية السلمية في الشرق الأوسط، على نحو يتطلب إشراك حماس فيها بنحو أو بآخر، أو أن "إسرائيل" تعدّ لحرب على الوجود الإيراني في سوريا ولبنان يحتاج بدوره لضمان هدوء جبهة الجنوب، أو أن مصر تسعى لجرّ حماس لمواجهة مع "داعش" في سيناء، أو أن هذه خطوة على طريق ضرب حماس بالسلطة مجددًا، وربما بإسناد إقليمي للسلطة، أو بعض ذلك مجتمعًا أو كلّه.
أيًّا كان الأمر، فإن عدم الثقّة باستقلالية الإرادة المصرية في ظلّ السيسي، والسكوت الإسرائيلي المطبق حيال ما جرى في القاهرة، يُشجّع على وضع تلك التحليلات بعين الاعتبار، لكن ثمة ما ينبغي التأكيد عليه، وهو أن العلاقة بين التابعين والمتبوعين ليست ميكانيكية، وأن منطق التدافع يجعل للمتبوعين مصالح خاصّة يناورن لأجلها.
يمكن القول إن للسلطة مصالح خاصة قد تدفعها للمناورة في هذه المصالحة الأخيرة، فتتعاطى معها إيجابيًّا على المستوى الخطابي والدبلوماسي، إن كان ثمة إرادة بدفع هذه المصالحة، أو رغبة في قطع الطريق على دحلان وتحسين العلاقات مجدّدًا مع المصريين، ولكنها تبطئ من سيرورتها إلى حين انجلاء المشهد.
وهنا تُطرح العديد من الأسئلة، إن كانت السلطة التي ابتزّت حماس كثيرًا بموضوع الانتخابات، جاهزة فعلاً لانتخابات في ظلّ انقسام فتحاوي، وإمكانيات استفحال الانقسام في حال لم تتفق نخبة السلطة في رام الله على الرئيس القادم، أو على توزيع القيادة بين مراكز الهيمنة الكبرى؛ رئاسة المنظمة، ورئاسة السلطة، ورئاسة فتح؟! وأيضًا وبعدما كشفت الانتخابات المحلية الأخيرة بالضفة عن تراجع هائل في شعبية فتح، وفي قدرتها على إدارة انتخابات ناجحة!
ومن تلك الأسئلة التي تطرحها فتح على نفسها الآن، إن كانت مستعدة لتحمل الأعباء المدنية في قطاع غزّة، ومن ذلك مسؤولية 42 ألف موظف، من غير المحسوبين عليها غالبًا، وهي التي يشكّل الاستئثار والتحكّم مكونًا عضويًّا في وعيها، في وقت يظلّ فيه لحماس قدرة أمنية، تتحكم بالقطاع بشكل أو بآخر!
بالنسبة لحماس، وهي التي قدّمت التنازلات بالدرجة الأولى، وفتحت الباب عبر المصريين لجلب السلطة إلى هذه المصالحة، فإنّها أولاً وقبل كل شيء، تبحث عن حلّ لمعضلة الحصار الذي خنق الناس في قطاع غزّة. تدرك الحركة أنها تنزف من رصيدها ومكانتها ومحبة الناس لها، مع كل يوم يمضي من الحصار. صحيح أن الحركة اقترفت من الأخطاء ما عزّز من حدّة هذا النزيف، وأوصلها إلى هذا المكان من التنازلات، ولكنها لم تعد تملك خيارات أخرى فيما يبدو، وإن كانت دائمًا مدعوة للنظر في أخطاء الماضي، وإعادة صياغة الحركة بما يحميها في المستقبل.
على أي حال، من المفيد أن تخرج الحركة من حكم القطاع، مهما قيل عن الترتيبات التي تدفع نحو ذلك، فالتجربة تثبت أن الحكم وإن أعطى المقاومة مجالاً أمنيًّا للبناء، فقد أخذ منها الكثير، ووضعها في قلب توازنات قاسية طحنت أعصاب الحركة طحنًا، وألجأتها للكثير من الخيارات المرّة، وأثّرت سلبًا وعلى نحو جوهريّ على بنيتها الداخلية، فضلاً عن صعوبة إدارة حكم رشيد في ظل الاحتلال والانقسام والصراع على السلطة والمخاوف الأمنية.
في وضع كهذا يظلّ على حماس أن تسأل نفسها، كيف ستعود للتعامل مع حقيقة وجود سلطة في ظلّ الاحتلال، طالما أن الانتخابات من بنود إتمام المصالحة، وهل ستضطر للدخول في مواجهة مع السلطة في حال بلغت المصالحة درجة وقفت فيها السلطة على أرض غزّة واتخذت موقفًا عمليًّا بالضدّ من سلاح حماس مستندة هذه المرّة إلى دعم إقليمي عمليّ؟!
حسنًا، مرة أخرى نقول، هذه الأسئلة مهمّة، ولكن لا بدّ من انتظار ما تسفر عليه الأيام، فهذه المنطقة دائمة الحركة، هي اليوم في أشدّ ما تكون عليه حركتها سيولة وتحولاً.