يقولون: "إن الهزيمة يتيمة، أما الانتصار فله مئة أب".. وفي كل مرة تحدث الهزيمة والخسارة، توزع أسبابها على جهات عدة في ظل تهرب كل طرف عن مسؤولياته المباشرة، وهذا ما عشناه واقعا في ظل مسلسل التجارب والأخطاء، الذي أدارته القوى المتنفذة في بلاد العرب والمسلمين، فعدنا غير قادرين على الاهتداء إلى الأسباب الحقيقية لما حل بنا من كوارث ونكبات، وبالتبعية غير قادرين على وضع تصور للخروج مما نحن فيه.
وفي المقابل، كلما أحرزنا انتصارا أو تقدما ما، تتكاثر حول إنجازه الادعاءات، ويمد لسانه القريب والبعيد، كما حدث في انتصارنا العظيم في ثورة نوفمبر المجيدة؛ فلقد كثر المتبنُّون للانتصار محليا وإقليميا ودوليا، ومع التقدير لكل من قدَّم كلمة أو درهما أو نصيحة أو تعاطفا، فإنه لابد من الإسراع إلى القول إن الانتصار للسواعد المقاتلة التي صنعت بدمها في الميدان شروطا جديدة وأنشأت المناخ الصحي والحيوي لتقدم كل جهود الآخرين.
هذا الكلام من المهم التذكير به ونحن نتصفح مجريات القضية الفلسطينية التي أبرزت معطيات خطيرة على صعيد الفهم والانتماء والقيم في إطار النخب السياسية والثقافية العربية.. فلقد كان الامتحان قاسيا على الجميع ويبدو أن معظم هذه النخب لم يجتز الامتحان بنجاح وسقط في منتصف الطريق.. ولم تبق إلا إرادة الشعوب ممثلة في طلائعها الحرة الشريفة التي لم تتقيَّد برؤى الأحزاب والنخب وظلت الأقرب إلى وجدان الأمة وإرادتها وطموحها.. وكان العنوان لكل ذلك هو فلسطين الكاملة السيدة.
على ضفة الهزيمة في الفكر والسياسة تخرج على مسامعنا أصواتُ المدعين والآباء الوهميين لكل فوز وانتصار جزئي.. حتى كدنا نغفل عن أصحاب الإنجازات الحقيقيين.. ففي ملحمة الأقصى البطولية ومنذ عدة سنوات يواجه المقدسيون معركتهم وحدهم تقريبا يشتبكون مع المستوطنين ويقاومونهم في معركة على كل التفاصيل في حين انزوت الأنظمة العربية عن واجب الدعم والإسناد فضلا عن واجب التحرير الذي جعلوا دونه كل المعاذير.. وفي الأسابيع الأخيرة أخذ هذا الصراع مداه على أرض بيت المقدس.. وكاد الأقصى الشريف يُلحق بالحرم الإبراهيمي تقسيما زمانيا ومكانيا لولا أن المقدسيين نهضوا جميعا خلف علمائهم في واحدة من تجليات العشق والانتماء ولم يترددوا لحظة طيلة الأيام والأشهر والسنين السابقة في تقديم كل ما يلزم للحفاظ على الأقصى والقدس..
وأمام هذا الانتصار الجزئي المهمّ في فتح بوابات الأقصى امتدت الألسنة وتطاولت الرقاب تتبنى الانتصار وتغمز من جهة الثوار والمقاومين مدَّعية أن لاتصالاتهم مع العدو وأسياده الفضل في حماية المسجد الأقصى!
المجد للسواعد المقاوِمة.. المجد لأهل القدس أولا وأخيرا؛ فهم الذين فرضوا على العدو الهروب من بوابات الأقصى، وهم الذين أسقطوا مرحليا فكرة التقسيم المكاني والزماني، وهم الذين أظهروا للدنيا مستوى رقيِّهم الحضاري وتجاوزهم للواقع الفكري والسياسي في المنطقة.. المجد للمقدسيين وهم يسحبون عقولنا من دوائر حروب الفتن والمعارك الثانوية إلى المعركة الحقيقية الصحيحة التي لا غبش عليها.. المجد للسواعد المقاتِلة.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يشعرون.
الشروق الجزائرية