منذ وصول نداء
تونس إلى مركز السلطة بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2014، تقدم هذا الحزب بالعديد من مشاريع القوانين التي أدخلته -وشركاءه- في صراع مع مكونات المعارضة السياسية والمدنية.
فقد التجأت المعارضة إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وإلى المحكمة الإدارية أكثر من مرة للاعتراض على لا دستورية المبادرات التشريعية التي قدمتها الحكومة ولا قانونيتها.
وكانت الاعتراضات مقبولة في الأغلب من طرف تلكما الهيئتين الرقابيتين، وهو ما يدلّ على هشاشة الأساس القانوني للمبادرات التشريعية الحكومية من جهة أولى، كما يدل -من جهة ثانية- على حجم الرهانات التي تدفع بالحكومة أو برئاسة الجمهورية إلى تقديم مشاريع قوانين تعلم يقينا أنها متعارضة مع الدستور، فضلا عن تعارضها المؤكد مع استحقاقات الثورة ومع مسار الانتقال الديمقراطي.
لعل من أكثر القوانين إثارة للجدل قانون المصالحة الاقتصادية والمالية وقانون زجر الاعتداء على الأمنيين والعسكريين.
قصد تمرير قانون المصالحة المالية والاقتصادية بالتوافق مع
حركة النهضة، قدّمت رئاسة الجمهورية الصيغة النهائية للمشروع بطريقة جعلتها تشمل فقط المصالحة في المجال الإداري، أي تهم الموظفين العموميين وأشباه الموظفين الذين خالفوا القانون ولكنهم لم يتحصلوا على أية منفعة شخصية مهما كان نوعها.
أمّا بالنسبة للجزء المتعلق بالمصالحة المالية والعفو المتعلق بمخالفة تراتيب الصرف فقد سُحب هذان البابان من المشروع النهائي الذي مررته لجنة التشريع العام إلى الجلسة العامة للتصويت عليه. ومن المرجح أن تقع الموافقة عليه رغم المعارضة الحادة التي يلقاها حتى في صيغته"اللايت" من المعارضة السياسية والمدنية.
فيما يخص قانون تجريم الاعتداءات على الأمنيين والعسكريين، فقد سبق عرضه هو الآخر على البرلمان لكن تم سحبه تحت ضغط المجتمع المدني، وذلك عند طرحه لأول مرة في شهر نيسان/ أبريل من سنة 2015.
ولعلّ السؤال المشروع الذي يمكن أن يطرحه أي مراقب محايد للشأن التونسي: ما هي دلالة هذا "التزامن" في عرض مشروعين يؤسس أحدهما لانتهاك منظومة العدالة الانتقالية، ويعمل الثاني على تحصين القوات الحاملة للسلاح بطريقة تثير مخاوف أكثر من طرف؟
تحت ضغط النقابات الأمنية، وبعد الأحداث الأخيرة في الجنوب، أعيد طرح مشروع زجر الاعتداء على الأمنيين والعسكريين أمام مجلس نواب الشعب.
وأصدرت أكثر من عشر منظمات وطنية -من بينها نقابة الصحفيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومراسلون بلا حدود- بيانا مشتركا طالبت فيه بالسحب الفوري لمشروع القانون باعتباره تهديدا لحرية الصحافة وضربا لحق التظاهر وتحصينا للجهاز الأمني والمؤسسة العسكرية بجعلهما فوق النقد والمساءلة.
لفهم هذا التلازم بين مشروع "تبييض
الفساد" و"مشروع تحصين الجهاز القمعي"، قد يكون من المفيد أن نشير إلى تلازم آخر قد يبدو للوهلة الأولى بلا علاقة بالمشروعين المذكورين أعلاه: فرض عرض الصهيوني ميشال بوجناح على مسرح قرطاج رغم الحملة الوطنية لمنعه بدعم رمزي كبير من الاتحاد العام التونسي للشغل، وإيقاف عرض مغني الراب المشهور كلاي بي بي جي بسبب "إساءته للقوات الأمنية".
تلك النقابات التي هددت بعدم تأمين حفلات هذا الفنان في صورة برمجتها في مهرجانات أخرى.
فما كان من إدارة مهرجانات قرطاج وقفصة وتوزر وسليمان إلا أن ألغت عروض هذا الفنان، مع إنكارها بالطبع أن تكون قد خضعت في ذلك لابتزاز أي جهة أمنية.
إننا لن نفهم التطبيع مع الكيان الصهيوني -باعتباره مسارات متداخلة ومتعامدة وظيفيا، وباعتباره الأفق الحتمي لسياسات الدولة وخياراتها الكبرى إلا بربطه بالتطبيع مع المنظومة الحاكمة قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011، مع إدخال بعض التعديلات الصورية على آلات اشتغالها قبل الثورة من مثل تشريك النهضويين في الحكم لتحييد جزء كبير من الشارع لا لتغيير أي شيء في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية اللاوطنية للنظام السابق، وتبني ديمقراطية "صورية" مرهونة للمال السياسي الفاسد والإعلام المظلل إلخ.
إنّ مسار إعادة إنتاج المنظومة السابقة -المسمّى مجازا "انتقالا ديمقراطيا"- لا يمكن أن يستغني عن التطبيع مع الكيان الصهيوني باعتباره أهم مركز من مراكز القرار الدولي، كما لا يمكنه أن يعارض إملاءات حلفاء ذلك الكيان المتحكمين في شروط "الجهات المانحة"، وهو ما يعني أنّ الوظيفة "الأصلية" للمنظومة الحاكمة لم تغادر -رغم كل الادعاءات الذاتية- مربّع الوظيفة التقليدية للأنظمة الاستبدادية: إدارة التخلف ومنع انبثاق أي مشروع حقيقي للتحرر ولامتلاك مقومات السيادة.
بعد انتخابات 2014 وعودة التجمعيين إلى الحكم تحت غطاء
نداء تونس -وبالتحالف مع النهضة- اتضح بصورة لا تقبل الدحض أنّ "الشرعية الانتخابية" -تحت حكم الواجهة الحزبية للمركّب الجهوي المالي الأمني الحاكم- ليست في حقيقتها إلا ضربا من التعديل الذاتي في آليات اشتغال الدولة العميقة ومجرد "أداة" أكثر فاعلية لإدارة جملة المصالح التي وقع تهديدها جديا في المسار الثوري المجهض يوم 14 يناير.
ولا يبدو أنّ "الشرعية الانتخابية" تدخّر جهدا في تأكيد هذه الملاحظة من خلال إصرارها على تمرير جملة من مشاريع القوانين التي لا وظيفة لها إلا الوظيفة التالية: تحصين المنظومة الحاكمة بصورة أكثر عقلانية، بل بصورة ديمقراطية في الظاهر، وذلك بتلافي الأخطاء التي وقع فيها المخلوع بن علي من جهة أولى، وبرسْكلة النواة الصلبة لمنظومته من جهة ثانية.
تعكس مشاريع القوانين التي يدافع عنها التحالف" الإسلامي-الأزلامي" الحاكم في تونس وضعية متناقضة ذاتيا: توظيف "الشرعية الانتخابية" من أجل ضرب المفاعيل الضرورية للديمقراطية باعتبارها أداة للتحررالفردي والجماعي.
ولا يمكن فهم مشروع المصالحة الإدارية ولا مشروع زجر الاعتداء على الأمنيين إلا ضمن هذا الأفق الارتكاسي النسقي.
فقطبا المنظومة الحاكمة مازالا أسيري الزمن الاستبدادي (إما كفاعلين فيه لم يعترفوا بعدُ بالثورة واستحقاقاتها، أو كضحايا له لم يخرجوا بعد من منطق المظلومية ومتلازمة ستوكهولم).
ولعل ذلك يفسر جزئيا التوجه العام أو روح المبادرات التشريعية التي يدافع عنها حزبا "التوافق". إننا أمام مبادرات تشريعية تعكس النتائج الحتمية لاعتماد منطق استمرارية الدولة الذي أعقب 14 يناير، ذلك المسار الذي لا يمكنه أن يشتغل -على أيدي ورثة المخلوع بن علي- إلا بالتقابل مع "استمرارية الثورة" أو بالتقابل مع المسار الثوري التراكمي.
لو نظرنا إلى "العقل السياسي" الذي يحكم مختلف المبادرات التشريعية التي قدمها النداء ودافعت عنها النهضة بعد الانتخابات الأخيرة، لوجدنا أنه عقل براغماتي وعقلاني يعكس قدرة المركّب الجهوي- المالي-الأمني الحكم قبل الثورة وبعدها على الدفع بالتناقضات إلى المنطقة التي يكون فيها جميع الفرقاء عاجزين عن مواجهة إملاءاته.
ولكن رغم ذكاء هذا العقل فإنه في نشوة انتصاراته المتتالية على استحقاقات الثورة قد يكون ارتكب أكبر حماقاته من حيث يظن أنه يضع آخر مسمار في نعش الثورة بقانون تحصين الجهاز القمعي.
فلو مرّ هذا المشروع فإنه آخر ورقات التوت عن عورة "وكلائه" السياسيين والنقابيين والإعلاميين (بإسلامييهم وتقدمييهم وليبرالييهم)، وقد يكون الحجة البالغة التي تؤكد أننا لم نخرج بعد من "الدولة البوليسية".
ما يعني تبعية أغلب الفاعلين الجماعيين للجهاز الأمني وارتهانهم لإرادة الأطراف التي تعمل على تغوّله وعلى إحكام قبضته على الفضاء العام في تونس.
ولا شك في أنّ لهذا السيناريو كلفة اجتماعية واقتصادية وحقوقية كارثية، وهي كلفة قد يكون على العديد من الأطراف الصامتة الآن -صمت خوف أو صمت تواطئ- أن تفكّر فيها بعيدا عن مصالحها الحزبية الضيقة ومناكفاتها الايديولوجية البائسة.