الملفات التي ينبني عليها الخلاف الخليجي الحالي ليست هي المشكلة، بل هي آثار للمشكلة الجوهرية التي نتغافل عنها، وهي مشكلةٌ مركبة من مسألتين:
المسألة الأولى: غياب اتفاق على محددات الأمن الإقليمي بين دول مجلس التعاون. فسؤال "من هو العدو" الذي ينبني عليه تعريف الأمن الإقليمي؟ لا توجد إجابة متفق عليها بين دول مجلس التعاون، فما تراه بعض الدول عدوا تراه دولٌ أخرى صديقا، فإذا كنا غير متفقين على تحديد العدو من الصديق فكيف يمكن أن نحدد مقوِّضات الأمن ومعززاته؟
المسألة الثانية: عدم وضوح معايير الثابت والمتغير في سياسات الدول الخليجية، فقد تدعي دولة أن هذا العنصر من ثوابتها ونفاجأ بعد أشهر بتحوّل هذا الثابت إلى متغيّر، والعكس كذلك.
هاتان المسألتان المترابطتان هما الماكينة التي تنتج عنها كل الأزمات المتتالية بين دول الخليج، وكل حل لا ينشأ من معالجة تينك المسألتين، فهو حل مرحلي آني وليس حلا استراتيجيًا\. فلا يمكن أن يكون هناك حل استراتيجي في ظل غياب الاتفاق على محددات الأمن الإقليمي، وفي ظل عدم وضوح معايير الثابت والمتغيّر في سياسة دول الخليج.
خيارات الحل في ضوء الثابت والمتغير
في السياسة هناك منطقتان:
المنطقة الأولى: منطقة الثابت، أي المبادئ والأصول التي لا يمكن للدولة أن تتنازل عنها، والتي تعتقد الدولة أنَّ وجودها جوهريٌ لبقائها إلى المستوى الذي لا تمانع فيه أن تمضي إلى ساحة الوغى للدفاع عنها.
المنطقة الثانية: منطقة المتغير، أي القضايا التي تتبناها الدولة إما لمصلحة معينة في وقت معين، أو تتبناها بنحو دائم لكن دون أن يكون لها أي تأثير على منطقة الثابت. والخصيصة المميزة لمنطقة المتغير هي أنَّ التحركات فيها من خلال نفي بعض العناصر وإثبات أخرى، لا يخلُّ أبدا بأي من المبادئ أو الأصول الخاضعة لمنطقة الثابت.
لا توجد سياسة في التاريخ كانت كلها ثوابت، ولا توجد سياسة في التاريخ كانت كلها متغيرات. حتى دولة المصطفى عليه الصلاة والسلام كان واضحًا فيها التمايز بين منطقة الثابت ومنطقة المتغير، كما في صلح الحديبية الذي شهد تنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض القضايا؛ مما ولّد غضبًا عند بعض الصحابة رضوان الله عليهم اعتقادا منهم أنَّ ما تنازل عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينتمي إلى منطقة الثابت، وهو في الحقيقة ينتمي إلى منطقة المتغير الذي يقبل منطق التفاوض السياسي.
الخلاف الخليجي الحالي قائم على عدة ملفات، فالدول الثلاث تطالب قطر بالتخلي عن موقفها من تلك الملفات، في حين ترفض قطر ذلك، على الأقل في المرحلة الحالية.
وهنا ينشأ سؤالان:
السؤال الأول: هل جميع الملفات التي تُنتقد على قطر تنتمي إلى منطقة الثابت أم منطقة المتغير في السياسة القطرية؟
السؤال الثاني: هل هذه الملفات تنتمي إلى منطقة الثابت لدى الدول الثلاث حتى تفرض هذا المستوى من العقوبات على قطر لأجلها؟ بمعنى: هل مسَّت قطر _ من خلال تبنيها لملفات الخلاف_ شيئا من ثوابت الدول الثلاث؟
الإجابة عن كلا السؤالين بالنفي. فلا هي من الثوابت في السياسة الخارجية القطرية، ولا هي كذلك من الثوابت في سياسة الدول الثلاث.
أما فيما يتعلق بالسياسة القطرية، فإنَّ بعض هذه الملفات طارئة على السياسة القطرية، ولا توجد مصلحة استراتيجية من وراء الثبات عليها، وإنما هي مرتهنة بالمصلحة المرحلية، وهي تتبدل بتبدل الأحوال. وخير دليل على هذا الكلام أنَّ قطر كانت على وشك أن تعيد تقييم بعض تلك الملفات قبل عدة أيام، لكن دق طبول الأزمة وتصعيدها أعاد الأمر إلى المربع الأول.
أما فيما يتعلق بسياسة الدول الثلاث، فلا يمكن القبول بأن كل الملفات التي يُطلب من الدوحة تغييرها تُعدُّ من العناصر الثابتة في سياسة الدول الثلاث، وذلك لسبب واضح وجلي، وهو أنَّ هذه الملفات نفسها كانت متبناة من قبل بعض تلك الدول إلى وقت قريب، وتغيّر الموقف تجاه تلك الملفات في هذه المدة الزمنية القصيرة، يدل على أنها خاضعة لعوامل العناصر المتغيرة، كالمصالح الطارئة والمرحلية.
إذن ما هو مطلوبٌ الآن من قياداتنا الخليجية، أن يعيدوا تقييم ملفات الخلاف وفقا لقواعد الثابت والمتغير في سياسة كل دولة، دون الوقوع في فخ تضخيم المتغير إلى مستوى الثابت أو تقزيم الثابت ليكون في مستوى المتغير.
وثمة رسالتان في هذا المقام:
الرسالة الأولى لصانعي القرار في الدول الثلاث:
لأول مرة في تاريخ الخلافات الخليجية – الخليجية يتم توظيف مصائر الشعوب لتسوية خلافات بين قيادات دول مجلس التعاون، وهذا أمر مشين ومعيب، وأعتقد أن تأثيره على الجانب النفسي لدى شعوب الخليج سيبقى سنين طويلة. ولذلك فإنَّ تصعيد الموقف أو حتى تأجيل حل هذه الأزمة سيعزز من الشرخ الحاصل بين شعوب الخليج، مما يوهن الأساس لأي عمل خليجي مشترك في المستقبل.
كما أنَّ استعمال القوة لحل هذه الأزمة يعني بداية تحوّل دول الخليج من قوى صاعدة إلى ما يسمى بالدول الفاشلة Failed state؛ لأن التصعيد العسكري يفتح الباب لنشوء عناصر عسكرية لا تخضع لسلطة الدولة المركزية، وهذا ما يعني فقدان السيادة الداخلية.
ومن هنا لا بد على القادة من أن يدركوا أنّ خلافاتهم حتى لو كانت شخصية من حيث الواقع، لكن لا يمكن أن تكون شخصية من حيث الآثار والعواقب، فالشعوب الخليجية لا يمكن أن يُزج بها لدفع ضريبة أي نزاعات على مستوى القادة.
الرسالة الثانية لصانع القرار القطري:
هناك ثلاثة أمور لا بد من الالتفات لها من قبل صانع القرار القطري:
الأول: أن تعيد قطر تقييم موقفها من بعض الملفات التي تشكّل قلقا لدى الدول الثلاث، والتي لا أعتقد _بصفتي باحثا قطريا_ أنَّها تستحق التبني والمفاصلة السياسية، وإنما هي مجرد عبء سياسي ومالي على السياسة الخارجية القطرية.
الثاني: ألا يكون هناك إعادة تقييم لأي من الملفات ما دامت الأزمة قائمة؛ لأنَّ أي تغيير في الموقف في أثناء الأزمة، يعدُّ تنازلا عن القرار السيادي لدولة قطر؛ حيث إنّ وجود هذه المقاطعة يضفي أجواء التهديد وليس أجواء المفاوضة، والتنازل زمن التهديد رضوخ، والتنازل زمن المفاوضة سياسة.
الثالث: أن تكون التهدئة هي الصفة المهيمنة على الموقف القطري، وعدم الانزلاق في مسار الاستفزاز والاستفزاز المقابل، وقد تبنى هذا الموقف البيان الرسمي الصادر عن مكتب الاتصال الحكومي قبل يومين.
أخيرا أقول، إنَّ استمرار الأزمة يفتح الباب على مصراعيه لكل القوى الإقليمية والدولية التي تنتظر لحظة انهيار المنظومة الخليجية على أحر من الجمر، لتغرس مخالبها في الجسد الخليجي المليء بالثروات والخيرات، ما قد يؤدي إلى أن يستقر العمق الاستراتيجي لبعض دول الخليج في خارج محيطها، وهو ما يعني بدء انهيار المنظومة الخليجية بنحو رسمي.
الشرق القطرية