لم يكن الاعتصام الذي قام به لفيف كبير من الشباب العاطلين عن العمل في منطقة الكامور، غير بعيد عن مدينة
تطاوين بالجنوب
التونسي، حدثا عاديا أو تحرك اجتماعي من بين المئات التي تقع في تونس بعد الثورة منذ ما يزيد عن خمس سنوات. لقد كان تحركا استثنائيا لا فقط في سجل التحركات التي يقوم بها شباب المنطقة أحيانا بدوافع سياسية، وأغلب الأحيان للمطالبة بالتشغيل والتنمية، وإنما أيضا في سجل التحركات الاجتماعية عامة. التطورات التي صاحبته ومختلف الآثار التي ترتبت عنه، والتي بدأت بالظهور سريعا والصدى الذي أحدثه، كلها تشير إلى واقع كوننا بإزاء حدث مهم وربما يكون مفصليا في سياق التاريخ الخاص بالثورة التونسية.
السياقات المتنوعة التي وقع من خلالها تحليل الحدث وأسلوب التعامل معه سعت، كل بحسب مقدماتها الخاصة، إلى رصد تطور العلاقة، الدراماتيكية أحيانا، بين الوفود الحكومية التي أرسلتها الحكومة تباعا للتفاوض مع المعتصمين ورد فعل هؤلاء المعتصمين أنفسهم. مما ظهر، فإن التحرك وقع النظر إليه كموضوع إعلامي بالدرجة الأولى في معنى رصد أخباره وردود الفعل التي أحدثها. قصارى التعاطي معه من جهة التحليل كان ضمن زاوية مضمونه السياسي المفترض، والذي لا دليل عليه أو من جهة ارتباطه بالحملات الوطنية المتعلقة بالمطالبة بالتدقيق في الثروات الطبيعية التي يعتقد أن منظومة الفساد تنخرها، أو من جهة إمكانية ارتباط التحرك الاحتجاجي بسياق التحركات الوطنية الرافضة لقانون المصالحة الاقتصادية التي تدافع عنه رئاسة الجمهورية في تونس بشراسة وتسعى بكل الطرق إلى تمريره رغم الرفض الشعبي له. في كل هذه السياقات كان الاعتصام دليلا علي حدث آخر أكبر منه وأعمق.
سواء تعلق الأمر بالتعاطي الإعلامي الذي يركز جهده على متابعة الحدث أو السياق السياسي الذي يسعى إلى تشبيكه ضمن سياق التحركات الوطنية العامة، حيث لا يكون الاعتصام إلا تعبيرا جزئيا عنها، في كل هذه الحالات لم يقع للأسف طرح السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا التحرك: كيف نفسر انفجار الوضع على هذا الشكل، وكيف أصبح من الصعب السيطرة عليه. ومن زاوية نظر سوسيولوجية: ما هي الإشارة التي يكشف عنها في سياق التاريخ العاصف للثورة التونسية؟ هذه الأسئلة لم تطرح لا لكونها غير وجيهة، وإنما لكون ضغط التقصي الإخباري، وكذلك بعض التفاصيل التي تم التركيز عليها دون غيرها لبهرجها الإعلامي حجبت الحاجة الملحة لتفسير تطور الأمور على هذا النحو، وسقوطها في مأزق من الممكن أن يستمر مدة طويلة لا يحتملها التحرك، خاصة بالنظر إلى تسارع الأحداث وطنيا وإقليميا، ومن جهة هشاشة الفاعلين فيه.
قصة التحرك الاحتجاجي
باختصار شديد، بدأ التحرك بمجموعة من العاطلين عن العمل في إحدى ضواحي المدينة؛ سرعان ما وجد تجاوبا في مختلف مناطق المدينة، حتى أضحى لكل حي من أحيائها خيمة اعتصام خاصة به تعمد إلى قطع الطريق الرئيسي، وتجبر المواطنين على سلك طرق التفافية لمباشرة أعمالهم. أبدى المواطنين تفهما لهذا التحرك الاحتجاجي وتضامنوا معه، وشكلوا حاضنة شعبية استمد منها هؤلاء الشباب دعما رمزيا للإصرار على مطالبهم. في البداية تعاملت الحكومة مع الاحتجاج الذي أنهى أسبوعه الثاني بالطريقة نفسها التي تعاملت بها ما باقي
الاحتجاجات وذلك بإرسال وفد حكومي للتحاور مع وفد من المعتصمين، إلا أن الجلسة الصاخبة بينت أن الحكومة تواجه محتجين من نوع مختلف عما تعودت عليه، إذ لم يعبروا فقط؛ للوفد عن استهجانهم للعمل الحكومي، وإنما نهاية ثقتهم في أي حوار مع الحكومة دون رفع أي مطلب سياسي.
نقل الوفد إلى تونس حالة اليأس التي عليها الشباب وصعوبة تمرير وعود جديدة، مما دفع رئيس الحكومة إلى الانتقال بنفسه إلى المنطقة، جالبا معه جملة من الإجراءات التي يبدو أن فريق عمله لم يجتهد كثيرا في صياغتها. وكان اللقاء عاصفا كغيره من اللقاءات، إذ كان ما أقره رئيس الحكومة مجرد قرارات شكلية لا ترتقي إلى اليأس الذي يبدو أنه استحوذ علي المحتجين، وهو يأس مرده إلى انعدام ثقة كاملة في وعود الحكومة لكونها لم ترتق إلى مطالب المحتجين المطالبين بنصيبهم من الثروة النفطية التي يعتقدون أن الحكم المركزي يستفيد من ريعها ويوزعها علي غير مستحقيها. أمام عدم تقديم الحكومة لمقترحات جديدة، قرر الشباب المحتج القيام باعتصام بالقرب من مفترق طرق شحن البترول في المنطقة التي تسمى بالكامور كورقة ضغط على الحكومة.
المطلبي والسياسي
تسارع الأحداث علي هذا الشكل حول الاعتصام إلى خبر، وحجب الأسباب التي أدت إليه، والتي يمكنها فعلا أن تفسر مسار الأحداث وتكشف عن المأزق الفعلي الذي أوجده.
من زاوية نظر كرونولوجية، بدأ الاعتصام بخيمة بسيطة على حافة الطريق في إحدى ضواحي تطاوين مباشرة بعد نشر التقسيم الرمس للدوائر البلدية الجديدة والتي ستكون محل تنافس انتخابي نهاية السنة. ما دفع شباب تلك الضاحية إلى إعلان اعتصامهم هو رفضهم لهذا التقسيم الذي ضرب عرض الحائط - في تقديرهم - مطلبهم الملح في فك عزلة منطقتهم، واعتبروا أن هذا التقسيم يعلن بشكل رسمي وشبه نهائي أن لا نهاية منتظرة لهذه العزلة ولا أملا جديدا يمكن توقعه. بشكل ما. فهم هؤلاء الشباب أن الوعود التي وزعت عليهم بلا حساب لم يتم تحقيقها، بل لا أمل في تحقيقها وأن الطبقة السياسية التي كانت أكبر المستفيدين من الثورة لا فقط لم تفعل شيئا وإنما لا يمكنها أن تفعل شيئا لا في الحاضر ولا في المستقبل. في حقيقة الأمر، ما فقده هؤلاء الشباب، بهذا التقسيم البلدي، هو الأمل في السياسة ذاتها، كممارسة يمكنها أن تنجز علي أرض الواقع ما خرجوا من أجله في ثورة كانون الثاني/ يناير. فعليا، ما تم فهمه أن التهميش الذي يعانون منه والذي لا يرون من أسبابه المباشرة غير قوافل الشاحنات النفطية التي تمر أمامهم يوميا، لا أمل في فكه إلا عبر العودة من جديد إلى الاعتصام وممارسة الضغط على الحكومة لإدماجهم في مشاريع التنمية التي يسمعون المليارات تنفق عليها، دون أن ينعكس ذلك فعليا على وضعهم الذي يتردى كل يوم. ما فهموه أن الممارسات القديمة والتي يعتبرونها سببا في وضعهم لم تنته، بل ربما أخذت دفعا قويا بعد الثورة. وما كان مجرد ممارسات فساد عابرة في ظلمة الليل أصبح اليوم السياسية الفعلية للدولة وفي وضح النهار، وأن من أوكلوا لهم أمر تحقيق أهداف الثورة أصبحوا مجرد أجراء لدى أصحاب النفوذ المالي الذين يكرسون دولة غير عادلة ترمي الفتات لعامة الشعب وترضي ممولي الأحزاب بلا حساب.
بصرف النظر عن حقيقة هذه التصورات، ما في أذهان هؤلاء الشباب أنهم يملكون كل ما يمكنهم أن يكونوا به غير ما هم عليه، وأن التقصير في ذلك مصدره الدولة. صحيح أنهم اختلفوا في تعيين هذا المصدر بعينه، بعضهم يراه في عقود النفط بعضهم الآخر يراه في بعض المتنفذين ولكنهم جميعا، سواء أكان ذلك صحيحا أو خاطئا، يتقاسمون نفس الشعور: ليس للحكومة أدنى إرادة في تغيير الأوضاع، وأقصى ما يمكن أن تقدم هو أن "تتوسط" لدى أصحاب النفوذ الفعلي لافتكاك بعض موارد الرزق الهامشية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وليس لها خطة فعلية لبعث المشاريع المشغلة من الضرائب التي تفرضها علي الشركات التي تستغل الثروات الطبيعية.
هؤلاء الشباب ليسوا في حاجة لمن يفسر لهم التوازنات المالية، ليسوا في حاجة لمن يشرح لهم بأرقام معينة، لأنهم يرون كل شيء أمامهم: يذهبون إلى مكتب التشغيل ولا يجدون فيه أدنى عرض جدي، وعندما يلتحقون بالمقاهي تكاد الطرقات تضيق بجحافل السيارات التي تحمل العمال والمدد والشاحنات الجديدة التي تحمل المعدات وعشرات الرحلات اليومية التي تحمل النفط والأنبوب الذي يضخ منذ خمسين سنة، كيف يمكن إقناعهم بان لا نفط، وبالتالي لا تنمية وبالتالي لا عمل وهم يرون كل شيء أمام أعينهم. كل الطرق ملئت بعوامل تنمية يرونها ولكنهم مبعدون عنها. كل شيء ظهر لهم وهو أكبر بكثير مما كان قبل الثورة، وما أدركوه أن الساسة سواء المحليين أو في العاصمة يروجون مسرحية بلا نهاية كل فصل فيها يعيد تأكيد الفصل الذي سبقه: لا عمل، لا تنمية.
ما شعر به هؤلاء الشباب أن الساسة لا إرادة لديهم للذهاب بأهداف ثورتهم إلى مداها، بل هم مجرد أجراء لدى مراكز نفوذ أقوى من الدولة، لينتهي بهم الامر أخيراإلى اليأس وانعدام ثقة نهائية في السياسية. تحديدا هو إعلان نهاية إمكانية تغيير الأوضاع بواسطة السياسية وعبر الحكومة، وهو في مضمونه الأكثر راديكالية إعلان علي فشل المشروع السياسي الديمقراطي التعددي في تونس بعد الثورة لفشله في تحقيق الغاية التي وجد من أجلها: إعادة توزيع الثروة.
قد يكون في تفسيرهم قصور، وقد يكون في مواقفهم بعض الارتباك، وقد يكون الموقف الذين بنوه فيه كثير مما يُؤخذ ويُرد، ولكننا لسنا في سياق نقاش أفكارهم لأنهم كونوا موقفا عاما بنوه من واقعهم المعيش الذي يحسون ناره تطوقهم، ولكن هذا ما يدور في خاطرهم والذي يبدو واضحا من خلال المطالب التي يرفعونها: هي ليست قائمة من المطالب المدروسة بشكل جيد، أو نتيجة دراسة دقيقة وعلمية، وليست قائمة نهائية، ولا تفرق بين المطلبي المباشر والسياسي الذي فيه نقاش، إذ تجمع بين توفير عدد محدد من فرص العمل وطرح شفافية العقود التي تبرمها الدولة، وهم يقدمون في غالب الأحيان مطالب عامة تمس مواضيع هم أنفسهم عاجزين عن تحديد مداها بشكل محدد، ولكنهم يتبنونها بشكل كامل و يدعمونها بكل إصرار ويرفعونها دون أن يضعوا حسابا إن كان المستمع يتمثل جيدا ما يريدون. يجمعون تحت بعض الألفاظ العامة كالتشغيل والتنمية كل المشاعر التي يحملونها عن الدولة وكل الطموحات التي جالت بخاطرهم لزمن طويل. جاءت المطالب عبارات قابلة للتعبير، ولكنها عصية عن التحديد بشكل نهائي لكونها مفتوحة بلا نهاية، وهذا في حد ذاته هو في الوقت نفسه نقطة قوة دافعة للإصرار على مطالبهم لكنه في الوقت نفسه نقطة ضعف يعانون مضاعفاتها التي لا يبدو أنها كسرت الإصرار الأصلي الذي تكون بينهم.
قائمة المطالب لا يعلم إلى الآن أحد مداها لكونها عبارات قليلة جدا يمكن ان تشحن بشكل لا نهائي وفعلي غير قابل للتنفيذ. ما يعبرون عنه في ألفاظ قليلة هو غضب غير متعين ضد الفعل السياسي الذي يتحدث لغته الخاصة، وهي ألفاظ يتصدون من خلالها لكل محاولة لتنظيم الحوار معهم، لكونها تشمل في حقيقتها مشروع سياسي مضاد للممارسة السياسية في تونس بعد الثورة.. ممارسة سياسية إيجابية تستهدف الفعل الذي يمكن تبريره لاحقا وليس ممارسة سياسية تشرح ما يجب فعله. من الديمقراطية ابقوا على قلبها التشاركي وتركوا جانبا مقارعة المشاريع والبرامج لكونهم يتقاسمون كلهم نفس البرنامج السياسي المضاد القائم على رفض السياسية وإعادة الأولوية المطلقة والحصرية للفعل: بإزاء واقع متأزم و بإزاء صراع سياسي حول مسائل محسومة كالهوية ومنزلة الدين، يلتفون حول مشروع سياسي سلبي بلا مشروع فكري ولا خلفية أيديولوجية ولا يبقى في ماهو سياسي غير عنصره الفاعل: تنظيم عملية انقاد المجتمع من الهامشية عبر ممارسة مجتمعية فاعلة.
من نافل القول أن هذه الممارسة السياسية ليست واعية لدي هؤلاء الشباب المعتصم، ولكنهم بعودتهم إلى الحد الأدنى السياسي (دفع الدولة التي تولى مسؤوليتها السياسية والاجتماعية) والحد الأدنى الديمقراطي (إعادة تفعيل الديمقراطية بما هي قوة تنظيم اجتماعية) عبروا بشكل مفارق عن المثل الأعلى الذي سعت الثورة التونسية بشكل مباشر أو غير مباشر، بشكل واع واحيانا كثيرة بشكل تلقائي، إلى إنجازه. لم تكن ثورة فوضوية ضد الدولة، وليست من باب أولى ثورة ضد الشكل المجتمعي القائم وخياراته الحضارية، وإنما ثورة ضد شكل معين من السياسية التي انزاحت من حقيقة كونها مشروع نهضة إلى ممارسة تسلطية غايتها ذاتها، ثورة ثانية ضد شكل معين من الديموقراطية مسخت فيه الإرادة الشعبية وتحولت إلى جهاز سيطرة مافيوزية على مقدرات الشعب.
ليس لنا أن نحكم بوجاهة هذا التحرك ولا أن نقيمه سياسيا، ولكن حسبنا أن نشير إلى واقع كونه تحرك هش، رغم الزخم الشعبي الذي احتضنه، إلا أنه غير قادر في حدوده الجغرافية وبحكم التوزيع السياسية للسلطة أن يذهب بعيدا.