في بعض هذا القول شماتة وتشف يقع خارج التحليل الرصين، لكنه تعبير صادق عن العجز أو القهر، وهو الأصدق أمام هذا التشكيل الحكومي الغريب الذي أفرزته انتخابات 2014.
يكاد المرء يستفيق كل صباح على أخبار عزل الوزراء واستبدالهم أو إحالة ملفاتهم إلى زملائهم؛ في انتظار توافقات بين الأحزاب المكونة للحكومة، فكل وزير لا بد أن يمر بهذا التوافق لتتم ترضية الجميع.
ننتهى غالبا أمام سؤال بلا إجابة واضحة من فعل هذا بتونس وثورتها؟
من أودى بها إلى هذا الحضيض السياسي الذي لا يمسك فيها وزير لسانه فيقول ما يعن له كأنه في غرفة نومه، فيضع حكومته ودولته في موضع ذلة أمام جيرانها وأصدقائها ويضع نفسه في موضع السخرية، فتحوله السوشيال ميديا إلى كورة جوارب.
لنعرض إلى آخر الذباب الذي سقط، ولنحاول فهم الأسباب، وإن كنت لا أعد القارئ بإجابة شافية، فالكواليس أعمق من أن أطلع عليها.
وزير البيئة الوسيم الغشيم
رياض الموخر الطبيب الوسيم رشحته الصحافة الصفراء لمنصب الأكثر وسامة في الحكومة انتمى إلى حزب آفاق بعد الثورة، ولم يكن قبلها معروفا إلا لمرضاه.
ولا ندري ماذا كان طبيبا ناجحا. فالوسامة لا تعني النجاح المهني. والمقالات المدفوعة الأجر لصحفي لا تجعل الوزير ناجحا، وقد كشف ضعفه وهوانه في أول لقاء إعلامي وعلمي خارج الصحافة التي تتغزل به.
رمى الطبيب تصريحا مسيئا لبلده، كاشفا جهله، فأثار غضب الدولة الجار (
الجزائر) ولو كان للجار الشرقي (ليبيا) أيضا حكومة مستقرة في هذه الأيام، لكشفت عن غضبها هي الأخرى أزمة ديبلوماسية بين
تونس والجزائر بسبب التصريح الغبي الذي كشف جهل الوزير خريج كليات الطب الفرنسية (الجزائر بلد شيوعي).
ستنحني الحكومة فتعزل الوزير كما انحنت سابقا وعزلت وزير الشؤون الدينية بسبب تصريح يسيء إلى العربية السعودية وبالتحديد إلى مذهبها الفقهي الرسمي الذي تعتبره جزءا من سيادتها الوطنية.
يقول الساخرون في السوشيال ميديا إن رئيس الحكومة سينتهي دودة في الأرض زاحفة بلا عامود فقري لفرط الانحناء أمام دول الجوار.
وزراء بدورو
الدورو عملة تونسية من فئة خمس مليمات نضرب به المثل في قلة القيمة وفي الامتهان. ففكرة بدورو هي فكرة تافهة وشخص بدورو هو شخص بلا قيمة ونقول الآن وزراء حكومة الشاهد هم وزراء بدورو.
فلفرط ما عانينا من فشلهم في إدارة ملفاتهم البعض يقول أن رئيس الحكومة بدورو وقع على وزراء من طينته والبعض يوسع القراءة إلى أن الأحزاب بدورو لم تجد لديها إلا "خبرات بدورو" فكانت حكومتهم بدورو.
وزير التربية يبحث عن زعامة ويريد أن يصل إلى رئاسة الحكومة وقد بذل جهدا جبارا في اصطناع صورة وزير شجاع، لكنه حارب على الجبهة الخطأ فانكسر وباء بخروج ذليل تحت جنح الظلام.
وزيرة المالية وقد زعموا أنها خبيرة بنوك وبورصة عبثت بالعملة الوطنية بتصريح أوشك أن ينهار بالدولة جميعها لا بالحكومة فقط.
وزيرة الرياضة تنظم مقابلات ملاكمة بين ملاكمين مغمورين وتحدث رئيس الدولة عن بطولات عالمية موهومة لتزين مكانتها عنده، وتخفي فشل الرياضة الوطنية في الوصول إلى ألقاب حقيقية وإلى فرض مكانة للرياضيين التونسيين في العالم.
وزير الفلاحة يختفي من وجه الإعلام لكي لا يرد على عجزه عن حل أزمة مياه الري في سنة جفاف. ويمكننا أن نعدد أمثلة أخرى للفشل والعمل "الرعواني".
هذا يجعل الوضع كارثيا فعلا. فكم سيعزل رئيس الحكومة ولم تمر سنة على توليه؟ أي صورة ستبقى في أذهان الناس عن وزراء عاجزين وحكومة مترددة وحائرة ولا تجد حلولا إلا بعزل أركانها؟ من أين سيأتي بالوزراء الآن؟
صحيح أن الراغبين كثر ولكن هؤلاء الفشلة أيضا كانوا من الساعين زحفا على بطونهم إلى الوزارات وقد كشفوا أنهم أضعف من الحكم وأهون
هل أقفر البلد من الكفاءات؟
"المتفرج فارس" هكذا نقول عمن يرى الصواب وهو خارج الفعل ولم يخضع للتجربة. وقد يكون بعض ما نقول الآن من قبيل فروسية المتفرج فالوضع عسير ولكن أي وضع لم يكن عسيرا؟ وما دور الحكومات إذا كانت ستعتذر دوما بعسر الظرفية التي يمر بها البلد أليست محكّمة لتجعل العسر يسرا؟
توجد مشكلة حقيقية في المشهد السياسي التونسي نعتقد أنها إحدى أهم أسباب هوان الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وقلة حيلتها في إدارة البلد. فالمشهد السياسي الحزبي مشهد محبط.
الزعامات الحزبية مستغنية عن الخبرات وتبحث فقط عن انصار طيعين يدينون لها بالولاء (فهي أحزاب دويلات داخل الدولة) وكل ذي رأي يهدد الزعامات.
لذلك فإن الأحزاب فقيرة ولا تجد من تقترح على رئيس الحكومة. الذي يخضع للتوافقات الحزبية مضطرا فيقبل بمثل وزير البيئة أو بمثل وزيرتي الرياضة والمالية
بقيت خبرات البلد الحقيقة خارج الأحزاب، ودمر المشهد الحزبي رغبة الكثيرين في الانتماء وكثير من النخب الحرة والكفؤة لا تريد أن تكون في قواقع حزبية ضيقة.
والحالات التي تم فيها استعمال خبرات مستقلة من قبل أحزاب حوّلت الأشخاص إلى مأمورين حزبيين داخل الحكومة، وإن لم يكونوا فعلا منتمين إلى الأحزاب التي وزرتهم.
فضلا عن ذلك، ساد شعور بعد الثورة بأنه من السهل أن تصير وزيرا. وتغنم شيئا من مباهج السلطة لذلك تقدم الصفوف أشخاص تحركهم أطماع ذاتية قصيرة الأمد، وتصدروا المشهد فحولوا عمل الحكومة (والعمل السياسي عامة) إلى سرك لا يضحك المتفرجين.
بعضهم انتقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين من أجل منصب وبعضهم غير مواقعه مرات كثيرة لكي يكون دوما ضمن حزب يقترح وزراء.
هذه الفئة الجشعة المتكالبة على المغانم زادت في تنفير كل ذي رأي يحترم نفسه من أن يختلط بها أو يشاركها الإدارة، فعملها يخرب كل أمل في إنجاز شيء محترم.
لذلك، فإن القطيعة بين خبرات البلد الحقيقية وبين مكونات المشهد الحزبي والسياسي تزداد اتساعا وليس بإمكان أي رئيس حكومة من داخل توافقات حزبية أن يفتك له قرارا باختيار وزرائه كما يجب. فالأحزاب تملك أن تسقط حكومته في البرلمان.
عندما يصبح السقوط أملا في بناء آخر
العزاء الأخير في مثل هذا المشهد، أن يفرط وزراء حكومة الشاهد في الأخطاء لكي تتآكل حكومة التوافق الحالية وتنهار.
طبعا المشهد الحزبي القائم يخوفنا من فوضى ما بعد الشاهد لكي لا نرى احتمالات انهيار هذه الأحزاب مع انهيار حكومتها القائمة فالحكومة هنا هي العامود الذي تتكئ عليه الأحزاب، فإذا انهارت الحكومة لن تقوم لهذه الأحزاب قائمة لأن ذلك هو علامة فشلها النهائي وخروجها من الصورة.
الأمل قائم، لكن في أخطاء من يحكم لا في صوابه لكي يتوقف عن الحكم فاشلا منتهي الصلاحية. أما متى وكيف تسقط هذه المرحلة فنحن في وضع المراقب المتوجس.
ولكنّا نتمتع بعزل الوزراء تحت جنح الظلام. إذ يبدو أن رئيس الحكومة يتلقى الوحي ليلا. أو لعله يعرف متى يصطاد الذباب فالذباب ينام بالليل مثل الإنسان.