كتاب عربي 21

من أجل بلاد جديدة لبلادي وأب جديد لأولادي!

1300x600
يقول العلماء أن التمساح عندما يهمُّ بالهجوم على الفريسة بعد نزولها في الماء فإنه يبقبق، ويصدر سلسلة من الفقاقيع تحت الماء، شوقا إلى لقاء الحبيب.

كان الضيف السوري النازح النازف أبو عايد قد جاء لزيارة أصدقائه من بلجيكا إلى ألمانيا غضبان أسفا، من غير المرور بحواجز اسمنت أو حواجز معمل الدجاج، فصحبه الأصدقاء في نزهة مواساة إلى مقهى تركي على نهر الماين. كان أبو عايد، وهو مهندس من دير الزور، لا يكفُّ عن الشكوى والأنين، يقول: خطفت الحكومة البلجيكية أولادي الثلاثة يا ناس..

والصحب يهونون عليه، لكن لم يهن الأمر عليه، فما وقع له أمر شديد الجلالة، وكبير الفداحة.

كرّر أبو عايد قائلاً، وهو يسحب نفساً قوياً من النرجيلة، فيبقبق الماء ويعتكر ويتلبد: أخذتُ طفلي سالم إلى الطبيب، فاكتشفَ في أذنه ماءً، ماء يا معشر النازحين وليس حشرة أم أربع وأربعين أو قرادة أو عفريتاً، عدنا إلى الدار فوجدنا الشرطة بانتظارنا، أخذوا الولد وأختيه الصغيرتين أيضاً معه. صادروا الأولاد، وكأنهم بضاعة مغشوشة، لم يخطر لنا أن السبب هو الماء الذي وجدوه في أذنه! كنا نقرأ عن حكاية في التاريخ الإسلامي عن أم تأمر ابنتها بغش اللبن بالماء، هذه أول مرة أسمع وأرى عن غش ولد بالماء، وفي أذنه!

قالت الشرطة: أنتم لا تستحقون هؤلاء الأولاد، أنتم مهملون. أم عايد أغمي عليها، ولم أعرف ما أفعل فنحن لاجئون، غير العراك مع الشرطة بالعربية، وبعد اتصالات مع أصدقاء، يئسنا، فهذه حكومة، وكّلنا محامياً، فحصلنا أنا وأمهم على رخصة بالزيارة الشهرية بحضور الشرطة، جئنا إلى أوربا من أجل الأولاد، تصوروا يا قوم، ابني الكبير عايد موقوف في سجون كردستان لدخوله البلاد من غير جواز سفر، وأخوه رائد موقوف في المجر للسبب نفسه، أمسينا من غير أولاد، كنا نسعى إلى لمّ الشمل في المنافي، فلم يبق في شمل الأسرة أي شمل، تمزّق الشمل تمزيقاً. تركيا كانت جميلة، لكن البداية صعبة فيها، ثمن بيوتنا ومتاعنا صار أجوراً للمهربين، أوربا ليست جنة، هل شاهدتم الفلم الهندي "من أجل أولادي"؟

واساه الطبيب أبو الطيب المتلبّي، وهو طبيب أطفال هارب مثل زملائه من سوريا، ولقب بأبي الطيب المتلبّي لأن اسم ابنه الأكبر هو الطيب، أما صفة المتلبي فلحسن معاملته زوجته، فهو يعمل خادماً لها، كلما غضب قالت له: لأشكونّك للشرطة، فيسكت. 

- على الأقل أنت مطمئن أن أحداً منهم لن يموت تحت التعذيب، سيدللون أولادك ويعيشون في تبات ونبات، لكن يتامى، فاصبر إن الله مع الصابرين.

وقال الدكتور أبو الصفا، وهو طبيب جراح يعمل في برلين: نصيحة، أسعَ إلى أبناء جدد يا أبا عايد، الولد الجديد له رعاية طيبة مالية وطبية. لن ترد الحكومة الألمانية عليك الأولاد. ستحبهم من طرف واحد منذ الآن.

قال: لا مانع عندي من إنجاب أولاد، وأنا أحرث الأرض ليل نهار أو أمضي حُقبا، لكن أم عايد متقاعدة عن الإنجاب، فهي في سنِّ اليأس.. والزواج من ثانية جريمة في بلاد العلوج الأفاضل.

تذكرتُ لهم واقعة مؤلمة مشابهة نشرتها صحيفة روز اليوسف في التسعينيات، وأوردها بوعلي ياسين في كتابه "شمسات شباطية" وفيها أنّ عائلة بوسنية مسلمة نزحت إلى أمريكا في سنة 1971، وافتتحت مطعماً ناجحاً في ولاية دالاس، بولاية تكساس، وحصلت على الجنسية الأمريكية، وفجأة تحولت حياة الأسرة إلى جحيم حينما تقدم أمريكي بشكوى إلى البوليس يتهم الأب بتقبيله واحتضانهم عند وداعهم إلى المدرسة في الصباح، وعند عودتهم في نهاية الدوام، وتحرّك البوليس وضبط الأب متلبساً بجرم تقبيل أطفاله، وتقرر اعتقاله على ذمة التحقيق، واستدعي طبيبان للكشف على الطفلة، وعمرها أربع سنوات، فأكدا براءة الأب من الاعتداء الجنسي! وأنها ما تزال عذراء، لكن طبيباً ثالثاً رجح حدوث الاعتداء ظاهرياً(!!)

أحيل الأب إلى المحكمة، واستدعيت الأم وأطفالها أيضا، وشهدوا ببراءة الأب، وأن "خطأه" الوحيد هو حبه وحنانه ورعايته لهم، لكن المحكمة العجيبة لم تأبه لشهادتهم، ولا بقرار الطبيبين، وأصدرت قراراً بالتفريق بين الأب وزوجته وأطفاله، أي أن يعيش كلا الجانبين في حالة انفصال، لكن بعد فترة طويلة صار قلب الأب يخفق شوقاً وحنيناً إلى رؤية أطفاله، ورتبت الأم لقاءً بين الأب وأطفاله، وفي اللحظة التي همَّ فيها بالتعبير عن مشاعره تجاه أطفاله، اقتحم البوليس المنزل، وأحيل الأب والأم إلى المحاكمة، التي انتهت إلى أنّ الأم تفتقر إلى الأمانة، وأنها لا تستحق رعاية أطفالها، وقرّرت المحكمة إيداع الأطفال أحد الملاجئ، وعرضهم للتبني لمن يشاء، حتى وقع الاختيار على أسرة مسيحية قامت بتغيير ديانة أطفاله من الإسلام  إلى المسيحية، وإجبارهما على ارتياد الكنيسة!

تأثر الصحب بالواقعة، وتذكّر أبو الصفا، صديقاً له صفع ابنه المشاغب في المطعم، فشكاه أحد الموجودين إلى البوليس الألماني، فحضر، وفحص الصور على الكاميرا التي لا تغفل و لاتنام، وظهرت البيّنة، فصادروا الولد، ومعه إخوته. كاد الأب أن يجنَّ، فهجم هو أيضاً على البوليس باللكمات والرفسات، فاعتقلوه ساعات ثم تركوه. خرج ولم يجد حجارة في الشارع، هنا لا يمكن القيام بانتفاضة حجارة، فالشوارع نظيفة، ثم عاد إلى البيت، وأصيب باكتئاب حاد، يمكن به طعن لبان الصخر الأصم وإسالة الدم منه.. هذه حكومة لا يمكن قهرها.

قالوا له بصراحة: قبولنا للجوئكم كان من أجل الأولاد، وأنتم لا تستحقونهم.

قال أبو عايد: الهموم كثيرة، الديار مدمرة، الأهل مشردون، الأقارب في السجون، أرواحنا في مناخيرنا، نحن نغضب لأي حركة في البيت ونضرب الأولاد..

قال أبو اليسر: أنا معروف بقسوتي على أولادي العفاريت، المدرسة كلها تعرف أني أضربهم، أتمنى أن يصادروهم، لكن هذا الحدث السعيد لم يقع لي حتى الآن.

قال أبو الصفا: أولادك أغبياء مثلك يا أبا اليسر، لا طمع فيهم، هم يصادرون الصالحين يا صاح.
قال أبو الطيب المتلبي ضاحكاً: أنا عندي ستة أولاد، ومستعد أن أحقن بولهم في آذانهم، طمعاً في أن تأخذهم الحكومة الألمانية وتريحني منهم.

صححنا له: ضع في أذنك بعض الآنك، أي الزئبق المذاب، وهذا أولى يا أبا الطيب المتربي.

حذّر فارس وهو الأعزب الوحيد في المجموعة، التي تسهر على خلط الماء بالدخان: يا جماعة احذروا الزوجات، وعاملوهن بالحسنى، واستوصوا بالنساء خيراً، هنا طبقات المجتمع تشبه الهند لكن بالمقلوب: الكلاب في الطبقة الأولى ويقابلون البراهما الهندية، ويليهم الأطفال ويقابلون كشاتريا، وفي الطبقة الثالثة النساء ويقابلون فايشيا، وبعد ذلك تأتي طبقة الرجال وتقابل الشودرا الهندية، يليهم اللاجئون، ستخسرون زوجاتكم يا معشر النازحين..

مرّ من أمامهم سربان من الكواعب الأتراب الألمانيات، كل سطرٌ فيه سبعة قصائد، يجرين بلباس الرياضة، لامعاتٍ كحد السيوف التي تتوهج فيها الحتوف، يلبسن زيّ الرياضة، الذي يدهم النفوس بالمضاضة، وظلـم هوى الأنثى أشــدُّ مضـاضـة على المرء من وقع الحسام المهند، وتنوس ضفائرهن ذيول الأفراس بخيلاء، فبقبقت النراجيل، وفار التنّور، واحمرّت الجمرات، وحمي الوطيس، واستوى العقل تحت الجودي، واشتاق القلب إلى  القلب عندما كانت نفسا واحدة قبل أن تنقسم نصفين، وينزح كل نصف إلى منفاه، ويضطرب العالم بالفتنة.. 

يقول العلماء: إن التمساح عندما يهمُّ بالهجوم على الفريسة بعد نزولها في الماء فأنه يبقبق، ويصدر سلسلة من الفقاقيع من تحت الماء، تمهيدا لأغنية: وصفوا لي الصبر لقيته خيال...

صدرت فقاقيع من النراجيل المصفوفة المختنقة، وحاصت التماسيح، واعتكرت قماقم الدخان بلون الفضة، وخرج عفريت معسل التفاحتين، عبر الأنابيب والخراطيم إلى أعالي الرؤوس، وأينعت، وحان قطافها.

وصاح أبو الطيب المتلبي: عاشت ألمانيا حرة مستقلة ذات سيادة... يسقط الاستعمار.

هتف المدخنون من قُبُل ومن دُبر: يسقط، يسقط، يسقط..