هناك علامات واضحة لمكارثية جديدة بكل معاني الكلمة، ترتسم في الأفق، هي مزيج من الاختلاف الثقافي والحضاري المتطرف، والعنصرية اللغوية والدينية وحتى الإثنية البغيضة. يحاكَم فيها الإنسان على أيديولوجيته، أو على دينه، في ظل عصر يُفترض أن يكون براغماتيا أكثر منه أيديولوجيا. لا يختلف جوزيف مكارثي عن دونالد ترامب في شيء.
كان مكارثي من وراء اتهام عدد كبير من موظفي الحكومة، وبخاصة وزارة الخارجية، ظلما، بالشيوعية والعمل لمصلحة الاتحاد السوفياتي. وامتدت المكارثية لجميع قطاعات المجتمع الأمريكي، وراح ضحيتها الآلاف ممن زج بهم في السجون ومطاردتهم والتنكيل بهم، من هؤلاء مارتن لوثر كينغ، ألبرت أينشتاين، آرثر ميللر، تشارلي تشابلن، وغيرهم.
ما الفرق بين البارحة واليوم؟ لم يعد اليوم الانتماء للإيديولوجية الشيوعية، بعد أن تم تقويضها، مهما، أو لنقل كافيا للطرد أو المتابعة القانونية، كما كان الأمر في السابق عندما تم تعميم المكارثية التي خولت للقضاة مطاردة كبار الفنانين في كل الميادين، ومراقبة تحركاتهم قبل محاكمهم، وسجن وطرد الكثيرين منهم نحو بلدانهم الأصلية، على الرغم من أنهم ولدوا في أمريكا الحرية والديمقراطية الفريدة، وعاشوا فيها كما عاش آباؤهم وأجدادهم.
بين يوم وليلة تغيّر كل شيء، فأصبحوا مواطنين من درجة عاشرة، وغير مرغوب فيهم. هذه المرة، مع ترامب، أصبح الإسلام هو الشبهة. أي تعويض الإيديولوجية بالدين الإسلامي تحديدا، على الرغم من أننا نعرف أن جنون التطرف موجود في كل زمان ومكان. هناك حقيقة موضوعية يجب عدم نسيانها. الإسلاموية المرتبطة بعدمية غير مسبوقة، سببت خرابا كبيرا في الجسد الإسلامي عموما، والعربي خصوصا. فقد افترضت نفسها الوحيدة المالكة للحقيقة الاجتماعية والدينية، وطوعت الدين، من خلال سلسلة من التفاسير التي لها مبرراتها وسياقاتها التاريخية في زمانها. واستعملت الدين كأيديولوجية مدمرة لأي تطور، وخلقت الفرقة في المجتمعات الإسلامية نفسها، بين مسلم جيد وآخر لا. بين سنّي وشيعي. بين مسلم ومسيحي وغيرها من الثنائيات العنصرية، وكل من لم ينتم لعدميتها أو حاول مقاومتها، اعتبر عدوا تجب محاربته.
كل ذلك، وفق نظرة شمولية، عمقها إيديولوجية مدمرة، دكتاتورية بعباءة دينية مقدسة، على قدّ المقاس، الهدف من ورائها تمرير خطابها العدمي والمتطرف، باستغلال حالة الأمية والجهل المستشرية. ليست الحرب الدائرة اليوم هي حرب الثنائيات، بين الشرق والغرب، بين الملائكة والشياطين. الخطر الإرهابي الأصولي حقيقة سوسيولوجية، يمكننا أن نتحدث عن أسبابها طويلا، لكنها موجودة وحاضرة، وهي تدمي العالم الإسلامي الضعيف أمنيا قبل العالم الغربي. ردود فعل المواطن الأمريكي البسيط أو الأوروبي العادي عموما، طبيعية.
هناك خوف حقيقي وليس وهما مفتعلا. خوف تولته الوسائط التابعة للمؤسسة الإعلامية المتعالية، فضخمت حقيقة موضوعية ومرئية، مع خلط أحيانا غير بريء، بين مسلم بسيط يعيش دينه أو حتى لا دينه كما يريده، في تناغم مع هويته المبطنة، وهو حال الغالبية التي تتعدى 99 في المئة يوميا في الشارع الأوروبي والأمريكي. وبين مسلم اختار التطرف، وأحيانا الفعل الإرهابي ليصل إلى حل معضلاته الخاصة. فتشمل كلمة الإسلام الأمرين على تناقضهما، وتتحول إلى رديف للإرهاب.
فعل أقلية أصبح يشمل دينا بكامله. لكن ضعف المؤسسة الدينية الإسلامية في أوروبا تتحمل مسؤولية ذلك، لأنها في الأغلب الأعم ظلت تبعية لبعض البلدان الإسلامية المتزمتة دينيا، ولا حضور لهذه المؤسسة في العمل على خلق نموذج المسلم العقلاني الرافض للتطرف، والمحتفل بإيمانه، لكن في الوقت نفسه ينتمي إلى مجتمع أوروبي أصبح مجتمعه، تحكمه قوانين وضوابط خارجة النظرة الأحادية. لا يمكنه أن يعيش دينه وينتمي ذهنيا على الأقل، إلى بيئة أخرى تحكمها الشرائع المدنية والدينية الإسلامية التي لا يعرف منها إلا القشور والعدمية التي كثيرا ما تفرض عليه؛ لأنها تجد أمامها كائنا مفرغا داخليا، سهل الانقضاض عليه. وإلا ماذا فعلت هذه المؤسسة الدينية للمسلمين الأوروبيين الذين توجهوا إلى أمكنة القتال والصراعات، وتحولوا إلى مجرد لحم للمدافع داخل وهم الدولة الإسلامية الصافية القريبة في أطروحاتها إلى إيديولوجيات الصفاء العرقي النازية. هناك حقائق يجب عدم التغاضي عنها.
مثلما لأوروبا قيم إنسانية نادت بها وأنسنتها بالحروب تارة، وبالإقناع بنموذجها تارة أخرى، والتي كان عليها حمايتها من مختلف التطرفات العاصفة، للمسلم أيضا حقه في الدفاع عن مكوناته وتوليفها إنسانيا. الهويات ليست كيانات مغلقة. عندما تسد أبوابها يبدأ رفض الآخر والحقد عليه فقط لأنه مختلف. وفق هذا المنطق، ليس دونالد ترامب ظاهرة منفصلة عن كل ما أحاط ويحيط بها، وليس أيضا إلكترونا حرا يدور في الفراغ. فهو التعبير الصريح عن هذه التصورات المسبقة عن الإسلام والمسلم والعربي أيضا، بكل انغلاقها وقسوتها. تتخذ صفة متوحشة وظاهرة ولا تلعب على الخطابات المتسيدة مثلما هو الحال في بعض دول أوروبا، حيث أصبح الإسلام وسيلة انتخابية حقيقية وظاهرة. نماذج كثيرة تتبدى فيها الظاهرة بوضوح شديد.
في هولندا بحيث أصبح الجهر بالعنصرية والإسلاموفوبيا مسألة اعتيادية. الانتخابات الأولية في فرنسا أظهرت أيضا هذه الظاهرة حتى أصبح الثلاثي لوبين، صاحب السبق، وساركوزي الجمهوري الذي لم يبقِ من جمهورية ديغول إلا عظامها وشعاراتها، على الرغم من مرجعها التاريخي المتوازن، وفرانسوا فيون القريب من فيليب سوغان الذي مسح بضربة كف، إنسانية سوغان وصداقته التاريخية للعرب. فيون، راهن بدوره على الخطاب الإسلاموي والتخويف، ليضعه على حواف العنصرية الدينية؟ وراهن على خطاب محاربة الفساد، قبل أن يدركه هذا الخطاب، ويضعه في الزاوية الضيقة، من خلال الفضائح التي أثارتها لوكانار أونشيني، وجرائد أخرى إلى درجة أن أطلقت عليه الصحافة مسلسل فيون.
طبعا، هناك في أوروبا، تيارات مقاومة، لكن ثقل الإعلام المضاد كبير، وهيمنة شخصيات مثل إريك زمور فلكنكراوت وغيرهما، ولا يسمح ببروز الحقيقة المنتظرة والمرجوة. تظل الخطابات العنصرية للأسف، هي المهيمنة بشكل كبير على المشهد السياسي الأمريكي والأوروبي.
لهذا؛ ترامب ليس إلا التعبير الواضح والنموذجي عن هذا التيار الذي يهرب من المشكلات البنيوية الرأسمالية المتوحشة التي وصلت إلى سقف شديد الخطورة، من تفككها الداخلي غير الظاهر، وأعادت النظر في كل المكاسب التي حققتها البشرية إنسانيا، ووضعت إنسان هذه الدول، في أفق الاستعمار الجديد الذي يعود سريعا، يقوده الجشع الكبير، ورغبته الكبيرة في حل مشكلاته وجشعه على حساب شعوب بلا نظم حقيقة، ولا تكنولوجية دفاعية، غنية نفطيا وبموادها الأولية، لكن حكم عليها بالفقر الأبدي، والهزات الشعبية التي ظاهرها ديمقراطي وبحث عن العدالة، وعمقها تفكك وحروب أهلية طاحنة مُدارة عن بعد.
الناس يموتون بالآلاف، بينما طريق الحرير النفطي مستمرة، كما لو أن شيئا لم يكن.