أكتب لكم الآن من بين اكداس من الكتب القديمة مصفرة الأوراق.
مراسلتكم
آيات عرابي من بين صفحات الكتب المنسية، اسلط ضوء شمعة على سطور يعلوها الغبار.
اذكركم بوجوه قديمة نبيلة نسيتموها، تعيش بين الأغلفة الممزقة.
بفعل فاعل تراكم الغبار على صورهم واشتبكت خيوط عنكبوت كثيفة على ملابسهم.
اقرأ من جديد كلماتهم التي لم يعد أحد يرددها.
خلف كل صورة تختبيء آلاف التفاصيل.
طاقة من النور والحياة تريد أن تُبعث من جديد.
الكبار غادروا عالمنا منذ مائة عام.
قوة ما وضعتهم خلف جدران الكتب الصفراء واخفت عالمهم من الوجود, ازالته لتصنع مكانه مسرحاً يبهر البسطاء بأضوائه وألوانه.
مسرح لا تنقطع فقراته ولا تفتُر كموجة تتلوها موجة والمتفرجون فاغرو أفواههم يضحكون ويشهقون ويندهشون ويتابعون وقد انشغلوا عن الكبار بمشاكلهم التي تقزمت واصبحت صغيرة.
قفص من خيوط عنكبوت يغشاها ظلام حالك دُفن فيه الكبار منذ مائة عام.
خرج القطار عن القضبان وانقلب وتهاوى بركابه على جانب الطريق. حيث اُقيم لهم على الفور مسرح عشوائي في الأوحال.
قبل أن يشعر ركاب القطار بالفارق، وقبل أن يتذكروا مقصورات القطار الفاخرة، أقاموا لهم مسرحاً يتقافز عليه مهرجو السيرك.
يظهر أحدهم على خشبة المسرح مرتدياً طربوشاً يتحدث عن الوطنية وبجانبه قاسم امين يتحدث بكلام جديد لا يفهمونه.
تحرير المرأة!!
المتفرجون لا يفهمون هذا الكلام الجديد، فهم مازالوا على عهدهم بمقصورات القطار الفاخرة التي كان شعار الخلافة يرتسم على جدرانها، ولكن الكلمة تبدو لطيفة فيصفقون.
يغادر خشبة المسرح بعد أن اخذ (السوكسيه) فيخلع طربوشه ويتنفس الصعداء ليلتحق بدور (البوكر) مع زوجته وحماه مصطفى فهمي صديق الإنجليز أو الهانم والباشا كما كان يسميهم في مذكراته.
الفصل الثاني يبدأ بعد فاصل قصير يعرض صوراً لدبابات في الشوارع وصوت احدهم يتلو بياناً عن الفساد في مذياع قديم ولا احد يرى ختم (صنع في الولايات المتحدة) المحفور على الدبابات, فهذه تفاصيل تتوه في حرارة المشهد والمؤثرات.
ثم يصعد الممثل الواعد عبد الناصر ليمسك بالميكروفون ويتحدث عن الاستعمار والتحرر والاشتراكية.
لا أحد من ركاب القطار يفهم على وجه التحديد ولكنها تبدو كلمات لطيفة.
الممثل يموت ليصعد ممثل جديد ليؤدي مشهداً جديداً.
المخرج يقتل هذا بالسم ويسهل قتل ذاك بالرصاص ويصعد ممثل فاشل جديد ليؤدي مشهداً طويلاً دام 30 سنة.
فقاقيع ورغاوي وفواصل موسيقية وحروب وانتصارات وهمية واكتوبر وديسمبر .. الخ.
والعرض ناجح حتى الآن وأكُف المتفرجين تكاد تحترق من التصفيق.
ركاب القطار المنهكون يتابعون فواصل جديدة بثيابهم الرثة، يجلسون في الوحل يتابعون اخبار النيو لوك الجديد للممثلة ديدي أبو الليل أو الاطلالة الجديدة لمطرب الفواصل سيد أبو انجي.
أغلبهم نسي شكل المقصورة الفاخرة.
ولكن بعضهم يتذكر الآن صورة السلطان على عرشه الفاخر.
والبعض يسترجع تلك اللحظات حين كان له سلطان يهابه الجميع، قبل أن ينقلب القطار وتتفرق كل مجموعة منهم إلى خشبة مسرح يعرض فقرات السيرك.
البعض وأنا منهم يعودون الآن لصفحات الكتب القديمة ليطالعوا وجه السلطان.
عدد من الركاب يتركون المسرح وقد سئموا كل تلك السوقية المنبعثة من المشهد. ملوا ذلك التقزم واتجهوا من جديد نحو القطار المقلوب.
سئموا هؤلاء الصبية الذين يظهرون على المسرح فيحدثونك عن الإرهاب والتحديات ومعدلات التنمية لا تتحرك من مكانها منذ مائة سنة.
سئموا حياة الوحل والمشاهد المكررة والممثلين الفشلة ولم يعد المسرح يجذبهم.
سئموا هؤلاء الصغار الذين ما عادوا يقنعون احداً ويريدون أن يعيدوا القطار إلى القضبان التي غطاها الغبار.