يثير مشاعر متناقضة بين الإعجاب والكراهية، وعلى نحو مدهش تمكن من صيانة مكانته بمعزل عن التقلبات التي عرفتها
إيران منذ رحيل الإمام
الخميني، ونجح بفضل فطنته وذكائه في البقاء داخل دوائر السلطة.
هذا التناقض لم يكن رهين حياته فقط وإنما انعكس أيضا على طريقة اهتمام الإعلام الإيراني بخبر وفاته، فقد عنونت الصحف الحكومية رحيله بعبارة "إيران تنعى الملك العظيم"، فيما تحدثت الصحف المناوئة له بشكل مقتضب عن وفاته كحدث عابر للبلاد.
حاول على نحو مرهق ومتوتر التحرك خارج دائرة علي خامنئي الوريث الوحيد للخميني بعد أن زاوجت إيران منذ رحيل الخميني بين الأسس الرومانسية للثورة كما أطرها الخميني، وبين البراغماتية القائمة على اقتناص اللحظة الراهنة واللعب معها وضدها في آن واحد، كما هو حال المرشد علي خامنئي الذي يريد الذهاب بـ"الحرس الثوري" إلى أبعد مدى في الجغرافية العربية المليئة بالثقوب، والوكلاء المحليين.
وعلى عكس ما تبدو عليه الصورة فإن علي أكبر هاشمي
رفسنجاني لم يكن إصلاحيا بالمعنى الفضفاض للكلمة، ولم يكن يصطف في خط المتشددين بالمعنى الدارج حاليا في وصف أحد أطراف المعادلة السياسية في إيران، بل كان بين قوسين مراوحا مكانه بين التشدد والإصلاح، فيما أصبح مرتبطا في سنواته الأخيرة بما يعرف بتيار المعتدلين.
ويؤكد الخبير في الشؤون السياسية عدنان طبطبائي أن "نقطة قوة رفسنجاني تكمن في عدم انتمائه لأي معسكر سياسي"، مضيفا أن "هذا يُعد السبب المباشر في أنه كان يلعب دور الوسيط بين أغلب الأطياف السياسية، ولذلك يعد موته خسارة لجميع أطراف الساحة السياسية الإيرانية".
رفسنجاني نفسه كان من ضمن خيارات الورثة، فهو وخامنئي كانا رمز السلطة في عهد الخميني، وهما أيضا قطبا الجمهورية الإيرانية الثانية التي نشأت مع رحيل الخميني.
وهو ما أكده خامنئي حين علق على وفاة رفسنجاني قائلا: "لقد خسرت رفيقا"، دون أن يخفي اختلافاته القديمة معه، حيث قال: "لا يمكن أن تلغي الاختلافات القائمة بيننا منذ حقبة زمنية طويلة؛ رابط الصداقة الذي يجمعنا".
ينظر لرفسنجاني على أنه كان القوة المحركة التي أدت إلى قبول إيران قرار مجلس الأمن الدولي الذي أنهى ثمانية أعوام من الحرب مع العراق.
وكان انتخابه لأول مرة عام 1989 ضرورة حكمت الثورة بعد التيارات السياسية والاجتهادات التي أعقبت رحيل الخميني، فوجود أحمد الخميني ابن مفجر الثورة آنذاك أوجب قيام الثورة على ركائز ثلاث، ما لبثت أن أصبحت ثنائية بعد إقصاء أحمد الخميني.
ثنائية قامت على استلام علي خامنئي كمرشد أعلى للثورة الإيرانية، وانتخاب رفسنجاني كرئيس لإيران في العام نفسه، وأثر هذان الرجلان في السياسة الإيرانية، أحيانا بعملهما معا، وأحيانا كعدوين لدودين يقفان على الضفة الأخرى من النهر.
رفسنجاني عرف عند توليه منصب
الرئاسة منذ عام 1989 إلى غاية 1997، بتوجهه نحو الانفتاح الاقتصادي، فبعد الحرب العراقية الإيرانية، حمل على عاتقه مسؤولية وضع برنامج لإعادة بناء الاقتصاد الإيراني.
وسعى إلى تشجيع التقارب مع الغرب وإعادة فرض إيران كقوة إقليمية، وإلى تحويل إيران من دولة تسيطر على الاقتصاد كما كان حالها في سنوات الحرب إلى دولة ذات نظام مبني على السوق.
ويقول منتقدوه إن هذه السياسة فشلت في تحقيق عدالة اجتماعية، لكنه عارض فرض القوانين الإسلامية المتشددة وشجع على تحسين فرص عمل النساء.
يؤكد رفسنجاني المولود في عام 1924، في قرية بهرمان، إحدى القرى في سهول رفسنجان، بأنه اليوم أفقر مما كان قبل الثورة، وهو ابن العائلة الثرية التي امتلكت الأراضي ومزارع الفستق. والذي التحق في فترة مبكرة من حياته بمدينة قم لدراسة العلوم الدينية.
وتولى رفسنجاني منصب رئيس البرلمان بين عامي 1980 و1989، وفي آخر أعوام الحرب العراقية الإيرانية التي انتهت عام 1988، عينه الخميني قائما بأعمال قائد القوات المسلحة.
وتولى في عام 2002، موقع رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام المكلف بحل الخلافات التي قد تنشأ بين مجلس الشورى (البرلمان) ومجلس صيانة الدستور.
وعند تولي الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي السلطة انتخب رفسنجاني رئيسا للبرلمان الإسلامي، وعند انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسا لإيران عام 2009؛ انضم رفسنجاني إلى صفوف المتظاهرين الذين يطالبون بالتغيير الديمقراطي.
وبعد ثلاثة أعوام، سعى للرئاسة مجددا، لكنه خسر أمام الرئيس المحافظ نجاد، عمدة طهران الشعبوي، وقد انتقد رفسنجاني سياسات نجاد علنا.
في عام 2006، عين رفسنجاني رئيسا لـ"مجمع الخبراء"، الذي يعين المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، ومن موقعه دعم مير حسين موسوي، الزعيم الإصلاحي الذي سعى للرئاسة وخسر أمام نجاد في انتخابات عام 2009 التي شكلت مفصلا هاما في إيران.
تعرض رفسنجاني لاتهامات متكررة بأنه جمع ثروة طائلة بفضل علاقاته السياسية، وهي المزاعم التي نفاها على الدوام.
وفي السنوات الأخيرة، لعب دورا بارزا في الحركة الإصلاحية في إيران التي كانت تحاول ممارسة نفوذ معتدل على النظام الإيراني ومرشده خامنئي.
والملف الأكثر غموضا في حياة رفسنجاني كان دوره في تطوير البرنامج
النووي، حيث تفاوض مع روسيا لإنشاء مفاعل للطاقة النووية في بوشهر، وقام بشراء التكنولوجيا النووية سرا من باكستان وأماكن أخرى، واعترف في مقابلة أجريت معه في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2016، بأن الحرب العراقية الإيرانية، التي قتل فيها مليون شخص، قادت إيران إلى التفكير بالمشروع النووي.
كان حلمه إحداث خلخلة في صفوف المتشددين، هذه الخلخلة التي توقفت قليلا مع وصول المحافظين للرئاسة في عهد نجاد والتي أغلقت باب الحرية في وجه الإيرانيين وزادت من قوة القبضة الدينية على الحياة الاجتماعية للشعب الإيراني.
ويكشف رئيس مركز الدراسات العربية والإيرانية في لندن، علي نوري زادة، في تصريحات صحفية أن رفسنجاني أفاد قبل ثلاثة أيام من موته بتصريح هام جدا، قال فيه إنه "من الضروري أن نغير الدستور ونعدل بعض المواد فيه".
وقرأ الخبير الإيراني أن رفسنجاني كان يقصد التخلص من "ولاية الفقيه"، "إذ لم يكن مؤمنا بها، وكان يعتبر أن عمر ولاية الفقيه قد انتهى، وأنه بذهاب خامنئي في المستقبل لن يكون هناك مجال لانتخاب شخص آخر، خاصة أن كل من يذكر باعتباره مرشحا فعليا، فإما فاسد أو قاتل، وهو ما قاله في مجالسه الخاصة مرارا".
ولم تمض الأيام الأخيرة لرفسنجاني بهدوء فقد شن هجوما غير مباشر على خامنئي حين اعتبر مكتبه في بيان صحفي أنه (أي رفسنجاني) يتعرض إلى "هجمة شرسة وممنهجة من قبل صحيفة "كيهان" المملوكة للمرشد خامنئي والصحف والمواقع المقربة والتابعة للمحافظين والحرس الثوري بإيران.
واتهم مكتب رفسنجاني ضمنيا خامنئي بتدبير مؤامرة ضده وتشويه صورته بسبب بعض المواقف التي يتخذها من أجل مصلحة النظام الإيراني.
وفاة رفسنجاني ربما تسبب إرباكا في التوازنات الداخلية في إيران، إذ إن الرئيس الإيراني روحاني كان يستعد للانتخابات المقبلة لدورة جديدة في نيسان/ أبريل المقبل.
وكان رفسنجاني سندا قويا له، وكان باستطاعته من خلال إمكانياته المالية وارتباطاته أن يجند نفرا كبيرا من الناس والصحفيين ورجال الأعمال والجامعيين والطلبة لدعم روحاني في الانتخابات.
ويشكل غياب رفسنجاني ضربة قوية جدا للمعتدلين والبراجماتيين ورجال الأعمال، وأولئك الذين يؤمنون باقتصاد السوق، فوجوده كان سيضمن عملية انتقال هادئة وسلسة للسلطة بعد رحيل خامنئي.
كما أن المرض الذي يعاني منه الرئيس روحاني، والوضع الصحي لخامنئي سيجعل المستقبل السياسي لإيران على المحك في الأيام المقبلة.
ووفقا لخبير إيراني فإن موت رفسنجاني لا يمثل ضربة قوية للمعتدلين والرئيس روحاني فحسب، بل للحركة المدنية في إيران وللمجتمع المدني، في غياب قيادات معارضة قوية، وسيقوي من دور الحرس الثوري والباسيج (قوات التعبئة الشعبية) في السياسة الداخلية في البلاد.