أصابت إسرائيل الشعب الفلسطيني بإحباط مرّ نظرا لإمعانها في قتل الفلسطينيين رجالا ونساء وأطفالا بذرائع واهية وتبريرات ممجوجة. ربما كان هناك من الفلسطينيين من كان يهاجم جنود إسرائيل بالسكين، لكن إسرائيل استعملت السكين لكي تؤكد تهمها وتبرر قتلها للشباب والشابات. كان من الصعب على الجميع معرفة لماذا يطلق الجنود النار على الناس بخاصة أن السكاكين كانت ترمى بالقرب من الجسد المدرج بالدماء وتدعي وسائل إعلام الصهاينة أنها كانت أداة الشهيد الهجومية. وعلى كل حال، في كثير من الأحيان لم تكن السكين مبررا للقتل بخاصة أنه كان من الممكن السيطرة على المهاجم أو المهاجمة من قبل الجنود.
تراجعت معنويات الشعب الفلسطيني أمام الأحداث لأن إسرائيل تتسلى بقتلهم وهم لا يتمكنون من الرد المؤثر أو الرادع، وصحيح أن بعض العمليات الفلسطينية ضد الجنود الإسرائيليين كانت ناجحة، لكن التضحيات الفلسطينية بقيت أعلى وأضخم بكثير من الخسائر الصهيونية. وكم هو مؤلم أن يرى فلسطيني بيت أخيه الفلسطيني يُهدم وتشرد العائلات في حين يتمكن المستوطن من الحصول على بيت مقام على الأرض الفلسطينية بكل سهولة ومع كل الحماية.
جاءت عملية القدس التي نفذها الشهيد فادي قنبر من القدس بتاريخ 8 كانون الثاني/ يناير2017 والتي قتل فيها أربعة جنود وجرح حوالي خمسة عشر جراحا بعضهم خطرة جدا كجزء من عملية إنقاذ معنوي وعلاج لبعض الإحباط. لقد تم تنفيذ العملية بدقة بحيث أوقعت خسائر كبيرة في الجانب الإسرائيلي.
ويبدو أن الشهيد كان قد بذل جهدا كبيرا في الرصد والاستطلاع ومعرفة الموقع وحجم التواجد البشري فيه في الأوقات المختلفة. واستطاع بذلك تحديد الساعة المناسبة لشن الهجوم بالشاحنة. وما أن سمع الشعب الفلسطيني بالخبر حتى تغيرت أحاديثهم الخاصة والعامة، وظهرت الابتسامة على الوجوه، وكأن الجميع كان ينتظر الثأر والانتقام لشهدائنا وبيوتنا. وفي غزة خرج الناس بتظاهرات عفوية تعبيرا عن ابتهاجهم بالعملية، ولو كانت الظروف في الضفة الغربية مواتية لفعل الناس ذات الشيء. لقد ارتفعت معنويات الناس إجمالا وشعروا أنهم أصحاب عزة وكرامة، وهناك من بين الشعب الفلسطيني من يحافظ على كرامة الشعب.
الشعب الفلسطيني ليس قاتلا ولا دمويا، لكنه كبقية شعوب الأرض يحمل في داخله نزعة الدفاع عن الذات وعن إنسانيته، وإذا كان لنا تفسير دوافع ما جرى فإنه لا يوجد سوى تفسير واحد وهو أن الاحتلال يفرز في النهاية نفيه، ويحمل في النهاية بذور فنائه. الاحتلال عدوان مستمر في الليل والنهار، وهو بحد ذاته يدعو الواقعين تحته للتخلص من نيره والقضاء عليه، ولولا العدوان المستمر لما كان للفلسطينيين أن يسفكوا الدماء. الاحتلال هو الذي يتحمل المسؤولية وهو الإرهاب بحد ذاته. وفق التعريفات الأمريكية للإرهاب، إسرائيل هي الدولة التي تستعمل القوة للهيمنة على المدنيين من أجل الحصول على مكاسب سياسية، وبهذا المعنى الأمريكي هي إرهابية، وكل من يقدم لها الدعم إرهابي. أما ادعاء رئيس وزراء إسرائيل بأن داعش هي التي نفذت الهجوم فمردود عليه لأنه لا يوجد أي دليل يؤيد هذا الادعاء. ولو كانت داعش هي التي نفذت لكانت الشاحنة مليئة بالمتفجرات المهلكة. أما اتهام داعش فيشكل بضاعة جيدة لإسرائيل لكي تضلل العالم حول سبب قيام الفلسطيني بمثل هذه العملية.
حاولت إسرائيل عبر السنوات وبمساعدة السلطة الفلسطينية أن توهم العالم أنها ليست دولة محتلة وذلك تحسينا لصورتها، وجاءت هذه العملية لتذكر العالم بأن إسرائيل ما زالت تحتل فلسطين وتهدم بيوت شعبها وتشردهم خارج البلاد. نتنياهو قام بمحاولة فاشلة لتحسين صورة إسرائيل، وإذا كان هناك من صدّقه فهي الدول الداعمة لإرهابه ووسائل إعلامها.
أما المشهد الذي تتهاوى معه هيبة إسرائيل فيتمثل بهروب الجنود الذين كانوا يتواجدون في المكان. رأى العالم الفيديو الذي التقط جنود لواء جولاني المسلحين والذي يعتبر أحد أهم الألوية القتالية في إسرائيل وهم يهربون أمام الشاحنة لينفدوا بجلودهم. وكما ذكرت بعض وسائل الإعلام أن إسرائيليا مدنيا كان يحمل سلاحه هو الذي واجه الشهيد فادي قنبر. وهذا تأكيد على ما يردده العديد من المهتمين بالشأن الإسرائيلي بأن جيش إسرائيل لم يعد كما كان، وأن جيش مرحلة بناء الدولة لم يعد موجودا، وحل محله جيش مكون من جنود يتمسكون بالحياة والرفاهية ولا يؤمنون بأن من واجبهم تقديم التضحيات. لقد اختلفت معايير الولاء والانتماء بالنسبة لجنود إسرائيل، وجرفتهم تيارات الحياة الحديثة التي تركز على المتعة والرفاهية، وأصبحت الهريبة جزءا من الثقافة العسكرية الإسرائيلية. لقد هرب جنود إسرائيل أمام قوات حزب الله وهم يصرخون ويستصرخون، وهربوا أيضا في قطاع غزة أمام قوات حماس والجهاد الإسلامي. وهم بالتأكيد سيهربون في أي مواجهة عسكرية قادمة، ومن الضروري أن تستثمر المقاومتين اللبنانية والفلسطينية هذا المنحى الإسرائيلي والذي يعبر عن هبوط مستوى الانضباط العسكري والالتزام.