الجيوش الوطنية من المصطلحات الجديدة الوافدة على المجال والحقل السياسي كله، حيث ظهر هذا المصطلح مع بزوغ فكرة الدولة الوطنية على ركام الدويلات العشائرية عربيا و الكولنيالية الإمبراطورية عالميا، ومع بزوغ فجر الثورات الكبرى من الثورة الفرنسية وحتى ثورات منتصف القرن العشرين العربية ضد المستعمر، لكنها ظلت هذه الفكرة في حدودها النظرية المجردة عن كونها واقعا ملموسا إلا فيما ندر من تجارب هنا أو هناك عربيا.
ففكرة الجيوش الحديثة أو الوطنية، هي فكرة وليدة مع فكرة الدولة الوطنية، لكن ثمة نسقين مختلفين للتوصيف يجب التفريق بينهما في التعريف لماهية الجيش الوطني، أو الحديث وما علاقة الجيوش الحديثة بالمسألة التنظيمية، وهل كل جيش نظامي يمكن أن يكون جيش وطني، أم أن المسألة ترتبط بالعقيدة القتالية والرؤى الايدلوجية لهذا الجيش فيما يرد تحقيقه وما مدى وطنية الجيش فيما يتعلق بعلاقته بالحاكم.
كل هذا التساؤلات ممكن الإجابة عليها كتالي، ففي البداية ينبغي الحديث عن أن الجيوش الحديثة هي جيوش نشأت بديلا عن الجيوش الشعبية غير النظامية التي كان يعتمد عليها الحاكم والقادة في عصور ما قبل الثورات الكبرى، كالثورة الفرنسية التي يرى البعض أن فكرة الجيوش النظامية ولدت مع قيام هذه الثورة، وترسخت في الحالة العربية مع محمد علي باشا في مصر.
لكن وجوب التمييز والتفريق بين الجيش الوطني والجيش النظامي يجب أن تفهم بشكل دقيق من خلال هذه المقدمة والتي ينبغي أن نميز من خلالها بالقول أن الجيوش النظامية هي الجيوش التي صارت نمطا معمولا به مع نهاية القرن السابع عشر، وهي تلك الجيوش الأكثر تنظيما وتدريبا من غيرها وتستند في أوامرها للقائد العسكري المباشر لها، ولا تأتمر إلا بأمره فيما يريد تحقيقه.
أما فكرة الجيوش الوطنية هي فكرة نظرية إلى درجة كبيرة ولكنها وصلت لمرحلة أن تكون فكرة عملية موجودة مع بزوغ ونجاح التجرية الديمقراطية التي كان لها الفضل في تبلور فكرة الجيش الوطني الذي يستند في ولائه للمؤسسة الحاكمة والمنتخبة، وفقا للدستور والقانون، أي بمعنى أخر، أصبحت فكرة الجيش الوطني، فكرة متحققة بانتقالها من المجال النظري إلى المجال العملي من خلال إيجاد المؤسسات الوطنية الحاكمة والناظمة لهذه المؤسسة ديمقراطيا.
بيد أن فكرة الجيوش النظامية، هي فكرة فنية بحته لا علاقة لها بالعقيدة القتالية للجيش التي ترتكز عليها فكرة الجيوش الوطنية، ومن هنا مثلت فكرة الجيوش النظامية واحدة من الإشكاليات المضافة إلى الحقل السياسي بحيث تحولت بفعل تعاظم هذه المؤسسة وزيادة نفوذها إلى لاعب سياسي كبير بل اللاعب الأول في المشهد السياسي وأصبح صاحب القرار في كثير من أمور الدولة وإدارتها إن لم يتحول إلى حاكم مباشر لها كما هو الحال في كل البلدان وخاصة البلدان العربية فيما بعد الاستقلال وحتى هذه اللحظة التي حاولت ثورات الربيع العربي الانعتاق منها ولا زالت تحاول حتى هذه اللحظة أيضا.
وبالتالي رأينا في العالم العربي مع تفجر ثورات الربيع العربي، كيف كان للجيوش دورا بارزاً سلبا أو إيجابا، في الوقوف مع أو ضد المطالب الشعبية بناء على العقيدة القتالية التي نشأ عليها هذا الجيش أو ذاك، فرأينا موقف الجيش المصري والجيش اليمني والليبي والسوري والجيش التونسي وهي الحالة الوحيدة الإيجابية التي تمثلت بخضوع هذا الجيش للإرادة الوطنية الشعبية المطالب برحيل الدكتاتور فيما بقت الجيوش الأخرى في موقف سلبي كبير بل وتورطت هذه الجيوش في وقوفها ضداً لإرادة شعوبها التي يفترض أن تقف إلى جوارها مدافعة عن خياراتها.
وانطلاقاً من هذه الإشكالية، فإننا اليوم كعرب أولا وكيمنيين بحاجة ماسة لمراجعة هذه التجربة المريرة التي عشناها وتجرعنا مرارتها في جيش صرف عليه مليارات الدولارات على حساب التعليم والصحة وكل شيء، فيما في لحظة ما تحول إلى أداة في يد مليشيات انقلابية ضدا لإرادة الشعب و قامعا له وتدميرا لمكتسباته التي كان يفترض أن تكون حاضرة في ذهنية هذا الجيش الذي تم مسخه من خلال التقاسم العائلي لوحداته وتوارثها أيضاً كإقطاعيات.
لقد كان لثورة الـ26 سبتمبر و الـ14 أكتوبر، بصمات كبيرة في رسم عقيدة قتالية وطنية لا لبس فيها بالنسبة للجيش اليمني لفترة طويلة، لكن الإشكال الذي حصل وخاصة في الشمال اليمني، هو تلك الارتدادة الكبيرة عن أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر من خلال أحداث أغسطس 1986م تلك الارتدادة التي أعادة مرة أخرى الوطن وجيشه إلى مربع التقاسم والتقسيم المناطقي والطائفي للجيش والذي من لحظتها لم يستطع اليمنيون إصلاحه رغم محاولتهم الخاطفة مع الرئيس الحمدي، لكنه جوبه بانقلاب أطاح به وبمحاولته التصحيحية تلك.
فالجيوش الوطنية لا يمكن أن تكون محصورة في طائفه معينه أو منطقة جغرافية بعينها كما هو حال جيش اليمن الذي خان شرفه العسكري ليلة 21 أيلول/ سبتمبر 2014م المشؤومة، وما كان له أن يفعل ذلك لو كان ثمة جيش ينتمي لكل قرية وبيت يمنية وكذلك قادته، لكن الصبغه المناطقية كانت عامل مساعد لتلك الحركة الانقلابية الطائفية الخطيرة التي دفع اليمنيون ثمنها باهضا وحتى هذه اللحظة وقد يدفعون ثمنها باهضا لعقود قادمة ما لم يتم تجاوز هذه الانزلاقة الخطيرة.
إن الجيوش الوطنية، هي تلك الجيوش التي ترتكز في إيمانها و تربيتها وتسليحها وتثقيفها على عقيدة قتالية واضحة لا لبس فيها، تلك العقيدة التي تحدد بدقة متناهية وظيفة هذا الجيش ومن هو عدوه الرئيسي الذي يجب أن لا يتساهل تجاهه مهما كانت الظروف وأن يبذل في سبيل انقاذ الوطن من هذا العدو كل ما أوتى من قوة، وأن لا ينفذ مهام خارج سياق
الدستور والقانون والقسم العسكري.
هذا هي مهام ووظائف الجيوش الوطنية التي تتضح بشكل كبير، في ظل وجود أنظمة ديمقراطية، تحرم على الجيش التماهي مع اللعبة
السياسة وتبقيه بعيدا عن صراعات
الفرقاء السياسيين كحارس أمين لكل الوطن وكل القوى وأن يظل على مسافة واحدة من كل الفرقاء السياسيين في صراع السياسة وأن يحمي الوطن من انزلاقه للعنف والفوضى بقمع كل من يريد الخروج عن مسار السياسة إلى العنف والسلاح، ويسهر على أمن وسلامة مواطنيه ومصالحه العليا.
باعتقادي هذه أهم ملامح الجيوش الوطنية التي نتمنى كيمنيين أن نكون قد استفدنا كثيرا مما جرى لنا جراء هذا الانقلاب الذي يحتم علينا عدم تكرار مثل هذه التجربة من خلال التأسيس الحقيقي اليوم لجيش وطني ينتمي لكل اليمن وبعقيدة قتالية واضحة ترتكز على تحديد العدو الأخطر لليمن تاريخيا ممثلاً بفكرة الإمامة السلالية عدوا رئيسيا وكل من يساعد على عودة هذه الإمامة داخليا وخارجيا.