الموساد الصهيوني يضرب في قلب تونس ويغتال بكل سهولة واحدا من أكفأ الكفاءات التونسية في جريمة بشعة ذات دلالات ورسائل كثيرة. فلا حديث في مهد ربيع الشعوب تونس اليوم إلا عن الجريمة النكراء التي ذهب ضحيتها الشهيد المهندس "محمد الزواري" ابن مدينة صفاقس حيث قامت وحدة الاغتيالات الخارجية في جهاز الموساد الصهيوني بقتل الرجل أمام منزله بدم بارد وبأكثر من عشرين طلقة بمسدس كاتم للصوت.
الجريمة البشعة تمت في وضح النهار وأمام منزل الشهيد بل وهو داخل سيارته مما يوحي بسهولة الاختراق الأمني في تونس رغم كل الاجراءات المتخذة في بلد يشهد تهديدات إرهابية حقيقية. بل الأعظم من ذلك هو حضور مراسل القناة العاشرة الصهيونية للتصوير أمام منزل الشهيد وعلى مرأى ومسمع من كل قوات الأمن والشرطة والمخابرات التونسية.
هل صارت بلادنا مستباحة إلى هذا الحدّ؟ هل بلغ الأمر بالمواطن أن يُقتل في بلاده وأمام منزله من طرف قتلة خططوا لموته على بعد آلاف الكيلومترات ونجحوا في الوصول إليه أمام منزله وبين أهله وذويه؟ أين أجهزة الأمن التونسية وكيف تم الترصد والتنفيذ بكل سهولة ومغادرة البلاد دون حسيب أو رقيب؟ كيف نفسر استقالة المدير العام للأمن الوطني صبيحة الاغتيال وهل لاستقالته علاقة بالجريمة؟ هل تمت العملية بعلم الجهات التونسية التي تغاضت عن الحادث وتكفل إعلام العار التونسي بالتغطية عليها إعلاميا باعتبارها جريمة قتل عادية؟
كثيرة هي الأسئلة التي لا تزال تتردد في الشارع التونسي بعد الجريمة البشعة التي كشفت حجم الانكشاف الذي يعاني منه المشهد الأمني والاستخباري في تونس. تونس اليوم وكما كانت بالأمس في زمن الاستبداد أرض مستباحة سواء في ثرواتها أو في مجالها السيادي أو في قرارها السياسي أو حتى في مواطنيها وطاقاتها. هي فعلا كذلك لأن حادثة اغتيال الشهيد محمد الزواري كشفت حجم الخلل الذي يشوب المؤسسة الأمنية بأن أربك أداءها وعرّى هشاشتها وهشاشة بنيتها و وظيفتها.
فالصدمة التي اكتسحت الشارع التونسي لم تقتصر على عملية الاغتيال فحسب لأن للصهاينة تاريخ قديم في تنفيذ عمليات عدوانية عسكرية مثل اعتداء "حمام الشط " ضد كوادر منظمة التحرير الفلسطينية أو اغتيال القيادي الفلسطيني أبو جهاد. شملت الصدمة كذلك تسريبات عديدة تؤكد تورط جهات داخلية في عملية الاغتيال وهو ما تؤشر عليه وتؤكده الاستقالات التي سبقت الجريمة بساعات قليلة وهي استقالات في أعلى هرم المؤسسة الأمنية التونسية.
كما شملت الصدمة ردود الأفعال التونسية الرسمية سواء بمحاولة السلطات التنصل من الجريمة بالتعتيم الإعلامي عليها أو بالنيل من شخصية الشهيد محمد الزواري خاصة بعد تأكيد حركة المقاومة الاسلامية حماس بأن الرجل قائد ميداني من قياداتها وهو كذلك مطور طائرات أبابيل المسيرة عن بعد والتابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة حماس.
إن ارتباط اسم الشهيد بالمقاومة الفلسطينية في جناحها الاسلامي هو الذي أحرج الحكومة التونسية وقد اكتفت بالبيانات الباهتة وحذر كبير في عدم ذكر الجهة المسؤولة عن الاغتيال حتى بعد الاعتراف الصهيوني المباشر بالعملية وافتخارها بذلك على شاشات التلفزيون.
لكن ماذا يعني أن يعلن الكيان الصهيوني عن العملية بشكل استعراضي؟ هل يريد من ذلك استهداف الوعي المقاوم والوعي الملازم للقضية الفلسطينية باعتبارها جوهر الصراع العربي مع قوى الاستعمار العالمية؟ أم هل هي عملية اعلامية يهدف منها جهاز الموساد الصهيوني استعراض عضلاته أمام دولة متخلفة أمنيا مثل تونس؟ أم هي حملة تواصلية ضد بلد يعلم الصهاينة أنفسهم بأنهم اخترقوه في أماكن ومناصب حساسة وهم يعلمون أنه بلد غير قادر على الردّ أو على الثأر لمواطنه؟
أسئلة كثيرة تبقى قائمة أمام هذه الجريمة الجبانة التي تكشف حجم إرهاب الدولة الصهيونية التي تنتقم لنفسها بشكل عدواني وتنتهك سيادة دول أخرى بشكل سافر يكشف مدى الهوان الذي وصل إليه وضع أغلب الدول العربية. إن استهداف مهندس وعالم مدني غير عسكري لا تتعلق به تهم بالإرهاب أو بارتكاب جرائم داخل تونس أو خارجها إنما هو تأكيد لمنطق قانون الغاب الذي يحكم العلاقات الدولية اليوم.
فالإرهاب الصهيوني لم يستهدف إلا واحدا من العقول العربية المطورة لمنظومة طائرات ذاتية القيادة أو مسيرة عن بعد وهو ما يعني أن الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال في فلسطين لا تتردد في تدمير العقول العربية والخبرات العربية عسكرية كانت أم مدنية لتساهم بذلك في تخلف الأمة وفي نزيف خبراتها.
من ناحية أخرى يمكن أن يُفهم الإرهاب الصهيوني في إطار العقلية الاستعمارية الإرهابية التي ترى في كل معارض لها عدوّا لا بد من تصفيته لكن كيف نفهم إهانة تونس لهذه العقلية الفذّة التي تحركت قوى الموت الصهيونية من أجل القضاء عليها؟
إن الإهانة التي لحقت بالشهيد محمد الزواري من قبل الجهات الرسمية هي اغتيال ثان له لا يقل بشاعة عن الاغتيال الأول ففي الوقت الذي احتفلت فيه حركة المقاومة الاسلامية حماس بقائدها الفذ تملصت تونس منه مؤكدة بذلك أنها فعلا دولة مستباحة في قراراها وثرواتها وسيادتها وخاصة في رجالها وعلمائها وشهدائها.