هيا بنا نضحك: "الطاغية المفيد" رئيس يلعب بالعالم دامة وهو يقضم القضامة!

لقد كان ماهرا في إخفاء نواياه.. هكذا يبدأ الفيلم مبديا حيرته في الحكم على شخصية بشار الأسد: أهو حاكم عصري أم طاغية؟ 

هل أحضر لكم فرشاة حذاء حتى تنتفوها: عصري طاغية، عصري طاغية؟.. 

أول ضحكة سوداء مثل الزفت، هي في بداية الفيلم عندما نرى زهرة الصحراء تحذِّره من عدم وضع حزام السيارة؛ ليس خوفا عليه، أو من أجل الأمان، أو لأنه قدوة... الزوجة التي تعمل محللة مالية، خائفة من لهو المخالفة الخفي، والرئيس - كما نعرف- من ذوي الدخل المحدود، والمخالفة ستكسر ظهر راتب الرئيس المحدود، فيظن المشاهد أنه في الجمهورية الفاضلة، أو في دولة أيسلندا الاستوائية... 

يقول الطاغية المفيد للمصوِّر إنه يقود بنفسه سيارته للقصر، فهو لا يعيش في قفص، إنه منتخب، هناك جملة يجب أن تقال: ثمت من يعيش في قفص لكنه ليس أسد السيرك، ولا أسد سلفادور دالي الذي كان له عنق زرافة وحوافر حمار.. 

هيا بنا نضحك..

بثت قناة "ZDF" الألمانية الفيلم الفرنسي الوثائقي "الطاغية المفيد"، الذي يجمِّل، ويلخص، ويقرأ، ويؤرخ لولاية الأسد المستمرة منذ 16 سنة من البوار والدمار، إنها الرواية الغربية التي تعكس أنماط تفكير الغرب الذرائعية، التي لا سبيل إلى تغييرها، فهي أكل عيش... مثال الذرائعية ولعب النرد: الرأي الذي جاء في السرد المرافق والقائل إنّ الطائفة العلوية كانت ملاحقة بشكل مستمر وخائفة من خسارة السلطة فبادرت إلى الحل الثاني وهو القتل! وهذا تبرير وتعذير. والرواية المرافقة التي تسرد تاريخ تسلح الثورة، مغفلةً إباحة النقل والتعذيب من غير عناية وتفسير كاف، أو بالأحرى باعتساف، وهو واحد من أكثر الآراء اعتسافا في الفيلم، الطغاة دائما كانوا مفيدين للغرب، فشعوبنا غنية بالبروتين والفيتامينات وأمور أخرى قد نذكرها في مقام آخر.

إنه يذكر بقول روزفلت عن دكتاتور نيكاراغوا سوموزا: "إنه حقير، لكنه حقير تابع لنا". 

الغرب يزرع الذرائع ويسمّدها بالصور والإعلام، فتنبت الحبّة سبع سنابل من الذرائع، في كل سنبلة مائة ذريعة، الذريعة شريعة يا سعادة البيه... 

الفيلم يخلص بصراحة إلى أنَّ الغرب يعدُّ بطش داعش أخطر من عسف النظام، فهو عنوان الفيلم. متى كان النظام خطرا على الغرب يا أهل الله ياللي هنا؟ الأسد كان مخبرا لهم على شعب كامل، لقد كان حائط مشكى يتطهّر به الغرب، يلومه على حال حقوق الإنسان بين الحين والآخر، يقول المتحدث: إنهم يتبنون موقفا غير أخلاقي، ولكن الغاية تبرِّر الرذيلة، والعين بصير واليد قصيرة، ويكاد يقول: بعد قتل الضحية: عظّم الله أجركم. 

جاتكو البلاوي.. أنى تؤفكون 

يظهر الطاغية المفيد، وهو يهمُّ بخلع الجاكت، وكان من أهم إنجازاته المدنية الديمقراطية أنه ظهر من غير كرافته، ومرة بنصف كم، فرأينا ذراعه الكريمة. ومن المعلوم أن النظام الإيراني يقود إيران بالعباءة والعمامة لكن القيادات العليا فيها تكره لبس الكرافات، ثم نراه وزوجته في سيارة: الرئيس زوج "جنتل"، يفتح الباب للسيدة الأولى، ثم يقود السيارة الرخيصة "صنع في قرية حسيا"، ويقول للمصوِّر والمخرج في المقعد الخلفي: أنظر إنها سيارة بزجاج عادي، وغير مصفحة، ويدقُّ على الخشب! 

على الحطب الجاف

سيارات الرؤساء مصفّحة في أمريكا وروسيا..

ويبرهن بالدليل والزجاج والبلور، أنّه يعيش تقريبا مثل عمر بن الخطاب وسط رعيّة تحبّه، وكانت زوجته قد قالت مرة لصحافي غربي وهي تشير إلى عجوز قائلة: انظر هذه السيدة هي التي تحمينا! وكلاهما متخرجان من كليات الغرب الفاضلة التي تخرج الطواغيت المفيدين!

ونراه بعد الرحلة في دار أوبرا، والأوبرا هي معبد الغرب، ونسمع تراتيل الغرب المقدسة يؤديها أطفال يتقلنسون الطاقيات البيضاء الإسلامية، هما يقولان دائما: نحن غربيان، نحن منكم وإليكم والبونجور عليكم.

الفلم يستردُّ سيرته بدءا من موت الأب، من غير ذكر لعلة التوريث، وقصة الشاب الخجول طبيب العيون يا سهام في العين، والوعود بالإصلاح والنكول عنها لصالح الأقارب، مشاركة قادة كبار في جنازة الأب، الرئيس الغربي الوحيد الذي شارك في الجنازة هو الرئيس الفرنسي، لاحقا زار الطاغية المفيد فرنسا.. 

 تيودور قطوف يقول إنّ الأسد أثبت أنّه حليف قوي ضد الأرهاب بعد عملية 11 سبتمبر، اليان شوبه رئيس المخابرات الفرنسية يقول إنّ الأسد طالما قدر على دس شخصيات في الجماعات الإرهابية، فيذكرنا بقصة ساخرة لعزيز نسين عنوانها "عاش الوطن". 

تتوالى الأحداث والتواريخ: غزو أمريكا للعراق وخوف الأسد الذي دفعه إلى تقديم خدمات أكبر فلعب ببيضة الاستقرار وحجر الإرهاب، وأرسل جهاديين إلى العراق يدغدغ بهم أمريكا، فضحكت للهرِّ الذي يستطيع اصطياد هذه الفئران، والأسماء التي وشى بها الرئيس المخبر كانت صحيحة. 

ثم محاولة تحرير الحريري للبنان من احتلال سوريا وانتقام الأسد بقتله، ومقاطعة الغرب له بعد الاغتيال، وتوجهه إلى إيران بقوة، وتوقيع معاهدة دفاع مع روسيا، الأسد يبحث عن حلبة اقتصادية في الغرب، ومتألم من نبذِّ الغرب له، عاد إلى الغرب بعد وعد بالتخلي عن لبنان لكن وضعه لم يتحسن، كان يريد تحالفا مع أمريكا، عبر ساركوزي، ثم انطلاق الربيع العربي، واشتعال أول مظاهرة في دمشق، في الحطب الجاف.. عرضت أمريكا المساعدة، لكن المخابرات كانت تفسد الاجتماع، يقول الفلم: إنه استجاب لنصيحة أمه بالبطش بالمظاهرات كما فعل أبوه، يا له من أبن بار بأمه وأبيه، السح الدح امبو، صفقة طلائعية.

من الأمور الغريبة في الفلم والتي تدعو إلى الضحك قول الراوي إنّ الثورة أعلنت كفر الرئيس! ما أحلى سوريا لو حكمها كافر مثل الإمبراطور الياباني، أو كافرة مثل ميركل.

خسر الدكتاتور الناجح دعم الغرب، ثم تأتي مرحلة البراميل والنازحين.. الفيلم يقول إنه أجبر أوربا على التدخل.. لصالح الأسد طبعا. 

وغضبة أوباما من اقتحامه الخط الكيماوي الأحمر، وهمه بالانتقام للخط الأحمر، والشرف الأمريكي الذي يراق على جوانبه الشمبانيا، وانتظرت فرنسا لحظة الصفر لكن أوباما غير رأيه وطلع الخط الأحمر مثل خط سعاد حسني بمبي، وتمخض الرئيس الأمريكي الكيني فولد نمرا ورديا! وصار القتل الكيماوي مهنة لا حقا، "ولا تشوفني عم أتدرج، دوبلني واتفرج"!  الطاغية قتل مئات الألوف، لكنَّ خطره على شعبه وحده، أما داعش فخطرها عالمي، انترناشينونال.

ضاعت مقررات مؤتمر جنيف، ترك الغرب روسيا وحدها لتحمي قاعدتها البحرية، ثم صارت سورية كلها قاعدة برية، وبعد خمس سنوات من الانقطاع عاد السفير الأمريكي إلى دمشق بعد وعدِ من الأسد بمباحثات سلام مع إسرائيل، فشارك الغرب الذي كان سيهجم عليه من أجل جريمة الكيماوي في هجمات جوية على داعش! وعاد قويا كما كان: له أحلاف مع، روسيا، إيران، والغرب.. سوى أنّ جيشه منهك، لكن شعبه تقلص إلى النصف. 

يقول الفيلم على لسان سياسي ضيف: إنه أستاذ في لعبة "إما أنا أو الفوضى"، وهي ترجمة لشعار الموالين: الأسد أو نحرق البلد. 

يقول فراس طلاس إنّ الابن أراد التفوق على أبيه، وهي من تجليّات النظرية الأوديبيه، ويقول فيليب كوردون المختص بشؤون الشرق الأوسط، بأسف: إنّ موقفنا غير أخلاقي.. ما باليد حيلة، هو أحسن من البغدادي. الغرب يغار على السبايا الإناث ولا يغار على السبايا الدول. يسمي الفيلم هذا المزاج الغربي "بالسياسة الواقعية"، لعل الاسم الأنسب لها هو: الواقعية الإجبارية. 

قصة ختامية قصيرة: في ذكريات الصبا، كان في بلدتي ولد شقي لقبه هرّو، سقط من خشم الشيطان، فَهُوَ فَاتِكٌ إشر، وكان آباؤنا يشكونه إلى أبيه، فهو يعتدي ويسرق ويبطش، ولهرّو خصم هو ابن عمه مرّو يعتدي فقط على أبناء حارته.. فكان الأب يتهدّد ويتوعّد هرّو، ويبطش بابن أخيه مرّو، لكنه في المساء يتحول إلى "السياسة الواقعية" ويفرح بغنائم الولد الكسيب هرّو ابن عم مرّو، كيت ميت ألف كيت وكيت ...

باط.