تكاثرت الدعوات المطالبة حركات "الإسلام السياسي" بضرورة مراجعة تجاربها إبان الربيع العربي وبعده، والتي تم إجهاضها من غير أن تكتمل تحت وقع ضربات "الثورة المضادة" بقواها الداخلية والخارجية.
وكان من أشد الناقدين لتلك التجارب، وأكثرهم جسارة في مراجعتها، نائب حركة النهضة التونسية، الشيخ
عبد الفتاح مورو، الذي أفصح في أكثر من مناسبة عن افتقار تلك الحركات للمؤهلات اللازمة للعمل السياسي، وضعف خبراتها في حقل الممارسة
السياسة.
ومن اللافت للنظر ما أشار إليه الشيخ مورو، في سياق مراجعته لتلك التجارب، أنهم اكتشفوا أن فوزهم الساحق في الانتخابات البرلمانية وغيرها لن يمكنهم من الإمساك بمقاليد
السلطة على الحقيقة، لأن مفاصل الدولة في قبضة رجالات "الدولة العميقة"، بحسب اكتشافاتهم المتأخرة.
اكتشافات الإسلاميين اكتشاف للمكتشف والمعروف
وبحسب باحثين وخبراء في شؤون الحركات الإسلامية، فإن مجمل اكتشافات الإسلاميين بعد تجاربهم المجهضة في الربيع العربي، تتمحور حول ضرورة تكيفهم مع شروط الواقعية السياسية، وبناء مشاريعهم وفق معطيات الواقع، وبالاستحضار الدائم لشروطه ومواصفاته الصارمة.
لكن باحثين في الفكر الإسلامي وشؤون الحركات الإسلامية، يذهبون إلى أبعد مما ذهب إليه عبد الفتاح مورو، فيصرحون بلا مواربة أن الحركات الإسلامية السياسية تفتقد في الأصل إلى مشروع محدد المعالم، ولا تمتلك خطة عمل منهجية، لذا فإن كل أفعالهم وتحركاتهم تأتي في غالبها كردة فعل، ولا يصدرون فيها عن مبادرات ذاتية خلاقة.
الكاتب والباحث الإسلامي، المهتم بدراسات النهضة وشروطها إبراهيم العسعس أحد أولئك الملحين على ضرورة مراجعة حركات "الإسلام السياسي" لرؤاها وتجاربها ومسيرتها، حيث انتقد بشدة نفور تلك الحركات من النقد الجاد، والمراجعة الجسورة.
وبيّن العسعس لـ"
عربي21" أن أغلب الحركات الإسلامية السياسية، تفتقر إلى الرؤى الإستراتيجية التي تنطلق منها في تحركاتها العملية، مع ندرة وجود مفكرين استراتيجيين في صفوفها، يمتلكون مَلَكة استشراف المستقبل، لوضع الخطط الممكنة مستقبلا، مع تحديد بدائلها في حال تعذر تطبيقها.
وتساءل العسعس: إلى متى ستبقى سياسة تلك الحركات واتخاذ قراراتها تقع في دائرة ردود الأفعال؟ إلى متى ستبقى تلك الحركات فريسة يسهل اصطيادها والإيقاع بها؟ إلى متى ستبقى السذاجة السياسية سيدة الموقف في قاموس تلك الحركات، دون وعي عميق بتجارب الآخرين، ودراسة متأنية للتاريخ؟
وقلّل العسعس من قيمة اكتشافات الإسلاميين التي جاءت بحسب رأيه متأخرة جدا، وبعد أن وقعت الواقعة، مبديا أسفه الشديد على من كان يحسب أنه بفوزه الساحق في الانتخابات سيتمكن من الإمساك بمقاليد السلطة.
وقال العسعس: "ما قيمة تلك الاكتشافات التي يكثر الشيخ مورو من الحديث عنها؟ وهل هي اكتشافات حقيقية؟ مجيبا بأنها اكتشاف لما هو مكتشف ومعروف".
وأضاف: "لو أن تلك الحركات درست تجارب الآخرين (إسلاميين وغيرهم)، لأدركت تماما أن تنازل أصحاب السلطة عن سلطتهم وهم قاتل، لأنهم لن يتنازلوا عنها إلا بثورة مكتملة العناصر، تقوض أركان القديم، لتبني صرح ثورتها من جديد.
وعزا العسعس استقرار تلك الأوهام في ذهنية إسلاميي الحركات السياسية إلى افتقارها للوعي السياسي العميق، وضحالة فهمها لفلسفة الحكم، وسذاجة تفكيرها السياسي، إذ كيف سيتنازل أباطرة الحكم عن مقاليد السلطة لهم بكل بساطة كما كانوا يتوهمون.
وأوضح العسعس أنه وعلى ضوء دراساته السابقة، كان ينظر إلى أحداث الربيع العربي نظرة مغايرة للنظرة السائدة، ويتوقع فشلها الأكيد (مشددا على أنه لا يقول هذا من باب الحكمة بأثر رجعي لأنه كتب ذلك في حينه)، لأنه لم يجد فيها ثورة مكتملة الأركان، بل هي هبات سرعان ما تمكنت قوى الثورة المضادة من محاصرتها وإجهاضها.
في السياق ذاته قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك الأردنية، وليد عبد الحي أنه لم يتفاجأ بما آلت إليه تجارب حركات "الإسلام السياسي" بعد الربيع العربي، فقد كان يتوقع مثل هذه النتائج من قبل. في ظل دراساته النظرية ورصده للأحداث والوقائع المتتالية.
وذكر عبد الحي أنه توقع وصول الحركات الإسلامية في دراسة سابقة له نشرها تحت عنوان (مستقبل الظاهرة الدينية) سنة 2005 إلى هذه الحالة، وأن حالهم سيكون مقاربا لما آل إليه حال الشيوعيين من تشتت جمعهم، وتفرق كلمتهم، وهشاشة تأثيرهم في المشهد برمته.
وردا على سؤال "
عربي21": ما هي عوامل تراجع حضور حركات الإسلامي السياسي، وإلى ماذا يرجع توقعاته بتفتت قواها؟ أوضح عبد الحي أن ثمة جملة من الأسباب تضافرت لتفضي إلى مثل تلك النتائج.
وأضاف عبد الحي "ضعف الوعي السياسي لدى قيادات تلك الحركات أحد تلك الأسباب، ووجود القوى المتحكمة في مفاصل الدولة (العميقة)، والتي لن تتنازل عن السلطة بالسهولة التي كانت متوقعة، وكذلك طبيعة النخب السياسية، إضافة إلى عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى".
الإسلاميون والدور الوظيفي البائس
من جهته قارب الأمين العام لحزب الأمة الكويتي حاكم المطيري تجربة إسلاميي حركات "الإسلام السياسي" من زاوية وقوعها في شرك مخططات القوى الدولية، التي فتحت الطريق للقوى الإسلامية، حتى يسهل عليها توظيفها في تلك المرحلة الحرجة".
وأضاف المطيري لـ"
عربي21": "لقد استطاعت تلك القوى احتواء المشهد الجديد بدهاء، وتمكنت من إعادة المنظومة القديمة بشكل هادئ كما جرى في تونس بعودة السبسي، وبشكل دموي كما جرى في مصر بانقلاب السيسي"، مشيرا إلى أن القوى الإسلامية لم تستوعب طبيعة الثورة، ومدى خطورة النظام الدولي الذي لا يقبل إطلاقا بتحرر هذه الدول وشعوبها لتختار حكوماتها بكل حرية.
وأبدى المطيري أسفه الشديد لأن الإسلاميين لم ينتبهوا لخطورة الدور الوظيفي الذي يراد لهم القيام به بعد الثورة، مع تنبيه المخلصين لهم، فوقعوا في الفخ والشرك الذي نصبه لهم خصومهم وأعداؤهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
وفي الوقت الذي امتدح فيه المطيري ثورات الشعوب العربية، لإسقاط الطغاة، واختيارها للإسلاميين ثقة بهم، أكدّ أن غياب الوعي بطبيعة الصراع وغياب المشروع التحرري من الاحتلال الخارجي، مع قصر المشكلة على الاستبداد الداخلي، واعتقاد أن جيوش دولهم وطنية، وليست صناعة العدو لتحمي دولهم الوظيفية، أفضى في النهاية لإعادة الشعوب إلى حظيرة الجزار والنظام الدولي الذي يحتل المنطقة ويقتل شعوبها.
وانتهى المطيري إلى القول بأنه "لا يمكن ممارسة أي عمل سياسي راشد قبل معرفة عميقة جدا جدا بالواقع السياسي الذي يراد التغيير فيه، ومعرفة خريطة القوى السياسية في بلده، واشتباك مصالحها حتى لا يتوهم أنه مع قوى معارضة ثم يتفاجأ أنه في أحضان النظام".
ووفقا للمطيري فثمة فرق كبير بين أداء من يتصور أنه في بلد مستقل، ومشكلته فقط في إقناع السلطة، أو الضغط عليها ليشارك في العملية السياسية، ويقوم بالإصلاح من خلالها، وبين من يرى أنه في بلد فاقد السيادة، ومن يتحكم في شؤونه ليس سلطة وطنية، بل قوى دولية لا يمكن أن تسمح للشعب بالحرية والاستقلال بعيدا عن نفوذها وسفارتها التي تتحكم في المشهد من وراء الكواليس.