إحياء لذكرى عاشوراء، رفع مناصرون لحزب الله راية سوداء مكتوب عليها عبارة "يا حسين" فوق صخرة الروشة، رمز العاصمة
اللبنانية بيروت الرابضة عند شاطئها.
وأثارت صور الراية استياء في أوساط سُنية تم التعبير عنه بشكل كبير في وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبار أن رفع الراية إنما يهدف إلى إعطاء هوية مذهبية شيعية لبيروت، التي يشكل المسلمون السُنة غالبية أهلها المسجّلين في دوائر النفوس الرسمية.
علما بأن هناك موقفا سُنيا ضيق الانتشار لا يرى غضاضة في رفع راية الحسين رضي الله عنه فوق كل تلة في لبنان، فهو سِبطُ رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن كانت منزلته تختلف بين كلّ من المذهبين السني والشيعي.
وربطت التغريدات المعترضة بين رفع الراية والروايات التحريضية التي ترافق الذكرى في غير بلد عربي وإسلامي. ومثل كل عام منذ خمس سنوات، تساءل ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، كيف ينتصر لدماء الحسين عليه السلام من هو غارق في دماء الأبرياء في سوريا، في انتقاد واضح لحزب الله والمليشيات الشيعية العربية والأعجمية التي تقاتل إلى جانب الجيشين السوري والروسي في الشام.
المُستغرب أن رفع راية الحسين لم يُثِر حفيظة المسيحيين في لبنان، أو على الأقل لم تُسجّل اعتراضات تُذكر على الموضوع، وكأنه تم التعامل فجأة مع بيروت على أنها مدينة سُنية والصراع على هويتها قائم بين المذاهب الإسلامية، ولا علاقة للمسيحيين بهذا الصراع من قريب أو بعيد، مع أن الذاكرة القريبة والبعيدة تشي بغير هذا الموقف.
في الانتخابات البلدية الأخيرة هذا العام، اشترطت الأحزاب المسيحية على تيار المستقبل تخصيص نصف مقاعد المجلس البلدي الأربعة والعشرين للطوائف المسيحية، رغم أن غالبية الناخبين هم من المسلمين السُنة، لأن عاصمة الوطن لا ينبغي إعطاؤها صبغةً طوائفية معينة، وقد وافق "المستقبل" على الطلب.
أكثر من ذلك، لقد اعترضت فعاليات مسيحية ذات مرة على نية الرئيس رفيق الحريري تشجير بعض شوارع بيروت بالنخيل، معتبرين أنها شجرة ذات دلالة طوائفية لا يسهم انتشارها في تكريس صورة العاصمة العابرة للطوائف والشعارات والإيحاءات المذهبية.
ولطالما سُجلت اعتراضات مسيحية تحديدا على مجسّم للفظة الجلالة عند مدخل مدينة طرابلس ذات الأغلبية السُنية، وتحته عبارة "قلعة المسلمين طرابلس"، بدعوى أن مثل هذه الشعارات تكرس الانقسامات القائمة بين اللبنانيين.
وهذا كلام عدل لو ينسحب على كل المناطق والمظاهر، فلا طرابلس قلعة المسلمين كما كتبت على مدخلها حركة التوحيد الإسلامي، ولا "جونية" عاصمة المسيحيين كما أعلنها الجنرال ميشال عون، ولا "زحلة" عاصمة الكثلكة والكاثوليك كما يصفها أبناؤها وفعالياتها، ولا صخرة الروشة منصّة لرايات
الشيعة.
لكن الواقع أن هذه المظاهر تعكس أحيانا مشاريع دويلات كامِنة داخل الدولة منذ استقلالها عام 1943 ولم تسمح بنشوء دولة الحداثة المدنية خارج سلطة أمراء الطوائف ومشاريع سيطرة الطائفة الموصولة بالخارج.
فالمسيحية السياسية استمدت قوتها تاريخيا من "الأم الحنون" فرنسا، الوصية على بلاد الأرز، وأنشأت لبنانا ذا طابع ونفوذ مسيحيَّين لا ينكر أحد أنه عاش فترة اقتصادية ذهبية في بعض السنوات، والشيعية السياسية بايعت في العقود الأخيرة "ولي أمر المسلمين" في إيران، فأصبح لبنان مقاوما صلبا للاحتلال الإسرائيلي، لكن في الوقت ذاته، منطلقا لعمليات عسكرية دموية في الجوار العربي صنفتها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي بأنها إرهابية.
أما السنية السياسية، فبسبب ضعفها ربما، لا يوجد مشروع فعلي لها منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، غير مشروع الدولة اللبنانية، أي الدولة التي كانت تسميها "الحركة الوطنية" بالدولة المارونية، حتى أن تيار المستقبل عندما فاز بأكبر كتلة برلمانية أطلق عليها اسم "لبنان أولا" وهو شعار زعيم النوستالجيا المارونية بشير الجميل.
إذن، الصراع عمليا على النفوذ الداخلي قائمٌ بين من لا يزال يحلم باستعادة مشروع "الدولة المارونية" وبين من يجد أنه قارَب تكريس مشروع "الدولة الشيعية".
مشروع الدولة المارونية لا يقوم على تأييد المسلمين
السنة له، مع أن معظمهم يفضله على تشييع لبنان، أما مشروع الدولة الشيعية فهو يبحث عن تأييد الطوائف له، لا سيما السُنة الذين يرفض معظمهم وصاية إيران عليهم.
والخلاصة، أنه إذا كان مشروع الدولة اللبنانية العابرة للطوائف غير متوفر حاليا، وإذا كان معشر السُنة لا يملكون فكرة وأدوات مشروع "الدولة السنية" فعليهم الاختيار بين "الدولة المارونية" و"الدولة الشيعية".
لقد جربنا الدولة المارونية فأنتجت حربا أهلية، والخوف من أن نجرب حربا أهلية فتنتج دولة شيعية..