تَتناسل الأسئلةُ عن اتجاه تطور الأزمة الليبية، وتتباين الأجوبةُ بحسب زاوية النظر إلى ما يجري في هذا البلد، الذي دخل السنة السادسة بعد انطلاق حراكه الاجتماعي ولم تتوافق أطرافُه بعد حول إعادة بناء
ليبيا الجديدة.. فإلى أين يتجه الصراع في هذا البلد؟ وهل بالإمكان توقع انفراج من شأنه توفير شروط المصالحة الوطنية بين أبنائه في المدى المنظور؟
ثمة مقاربتان تبدوان متباعدتين لتصور الخروج من دائرة الأزمة في ليبيا: تدعو الأولى، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن الجنرال المتقاعد "خليفة حفتر" عائق حقيقي أمام إعادة بناء ليبيا. في حين ترى الثانية، مدعومة من دول إقليمية (مصر وبعض دول الخليج العربي أساسا)، أنه طرف أساسي في المعادلة السياسية، وأن الوقائع في الأرض تؤكد أهميته في رسم المستقبل الليبي.
الواقع أن المقاربتين معا تعبران عن وجود تباعد في منطلقات النظر لإعادة بناء ليبيا، والآفاق المنتظرة منه.. وهو تباعد مرتبط بشكل عميق بطبيعة الدولة والشرعية المراد تأسيسهما، وتاليا نوعية التوزيع المنتظر الذي سَيطال السلطة والثروة بعد سقوط النظام. فمن جهة ثمة حكومة معترف بها دوليا، تمخض تشكيلُها بعد جولات من المفاوضات في مدينة "الصخيرات" المغربية (2015)، وبدأت في الاستقرار في العاصمة طرابلس، وتوسيع مجالات نفوذها. ومن جهة أخرى، هناك تصاعد لقوة الجنرال "حفتر" على الأرض، حيث استغل كل الدعم العسكري واللوجستي الموجود لديه، والمدعوم من القوى الإقليمية، كما جند مقاتلين من بعض دول الجوار الإفريقي، ليتمكن من السيطرة على "الهلال النفطي"، ويُخرج مقاتلي "داعش"، ويضع يده على جزء مهم من الثروة النفطية الليبية، بل أكثر من ذلك، صمم على الوصول إلى طرابلس، وتحريرها، بحسب قوله، من الحكومة المعترف بها دوليا.
لا شك في أن المتابع لتطور الأزمة الليبية منذ سقوط النظام سنة 2012، يلاحظ غموض الموقف الدولي وتناقض مواقف أطرافه، كما يلمس، دون شك، هشاشة الأطراف المتصارعة في ليبيا وعجزها عن بناء توافق من أجل إخراج بلدهم من شرنقة الأزمة وتداعياتها. بل يبدو واضحا أن تنازع المصالح الدولية والإقليمية فوق الأراضي الليبية عمق ضعف الليبيين، وأبقى على تفرقهم، وعقد حظوظ التصالح فيما بينهم.
لعل الجديد في الأزمة الليبية يكمن في تغير نظرة الأطراف الدولية والإقليمية معا، وما يجب فعلُه على الأرض الليبية. ففي الاجتماع الملتئم قبل أيام في "نيويورك"، على هامش الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، والخاص بالأزمة الليبية، كانت الرسالة الأساسية للقوى الدولية المشاركة تُفيد أن الأولوية الآن في ليبيا تكمن في الأمن والاستقرار ومواجهة خطر تنظيم "داعش" والهجرة المتنامية من إفريقيا تجاه أوروبا، وأن القوة أو القوى القادرة على تأمين تحقيق هذه الأولوية هي التي ستصنع السلام في ليبيا الجديدة. لذلك، تغيرت نظرة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا حيال اتفاق "الصخيرات" والحكومة المنبثقة عنه، وبدت مواقفها مشددة على أن الجنرال "خليفة حفتر" طرف في المعادلة السياسية الليبية، وأن إقصاءه من البناء الجديد سيكون أمرا صعبا إن لم نقل مستعصيا.
تنبني حيثيات الموقف الجديد للقوى الدولية على معطى جوهري قوامُه أن الجنرال "حفتر"، وعلى الرغم من أنه من بقايا النظام القديم، وليست له شرعية سياسية متوافق عليها، وأنه يقود منذ البداية حركة انقلابية على مشروع البناء الجديد في ليبيا، فإنه أثبت جدارته في مقاتلة تنظيم "داعش"، ودحره في مواقع حساسة من ليبيا، ووضع يده على جزء يسير من منابع النفط، ويكون بذلك قد انتزع شرعية الاعتراف به بالقوة. مقابل ذلك، لم تستطع الحكومة المعترف بها دوليا من التقدم في اتجاه بناء المؤسسات وتوطيد استقرارها وفعاليتها. والواقع أن المبعوث الأممي إلى ليبيا "مارتن كوبلر" لم يتردد في الإعلان صراحة عن أن لخليفة حفتر دورا لا مندوحة عنه في البناء المستقبلي لليبيا.
ربما قد يكون "للواقعية السياسية" التي تحكم مواقف القوى الدولية تجاه الأزمة الليبية قدر من النجاعة، وربما قد تفتح أفقا لخروج هذا البلد من تمزقه. فما تحتاج ليبيا بشكل جوهري توفير شروط استماع الأطراف لبعضها البعض، وتكاثف الجميع من أجل وقف النزيف المستدام لأرصدة القوة في ليبيا إن بقيت، والتوافق على بناء المستقبل. لذلك، قد يُشكل الحوار بين من بنى "شرعيته" على الأرض (حفتر)، ومن أسسها على التفاوض (الصخيرات) مقدمة لتحقيق التوافق المطلوب، إن صدقت نيات وإرادات المتحاورين، وإن دفعت القوى الدولية والإقليمية إيجابيا في هذا الاتجاه.
ليس أمام الليبيين سوى الاقتناع غير المشروط بأن خيارهم الأسلم إعادة تجنيب بلدهم آفة التفكيك والتمزق أولا، وإعادة بنائها على ما يخدم البلاد والعباد.. فثرواتهم الغنية والمتنوعة من نفط وغاز وسواحل ومناطق سياحية وقرب جغرافي تسمح بذلك، وديمغرافيتهم التي لا تتجاوز الـ7 ملايين عامل مُيسر ومشجع على البناء الجديد.. فبدون التوافق حول هذا الأفق لا يُعرف ولن يُعرف على وجه اليقين إلى أين تتجه الأزمة الليبية وماذا ستكون مضاعفاتها الجيواستراتيجية على كل دول المنطقة.