مشهد عظيم، ينتظم فيه ملايين البشر كل عام، يفدون من أرجاء العالم على تباعد أطرافه ليجتمعوا على صعيد واحد، متجردين من الدنيا وزينتها، يصدعون بالنداء: لبيك اللهم لبيك.
ليس نداء الحج شعاراً من قبيل ما يصوغه الناس بأهوائهم وينحتونه بتحيّزاتهم، بل هو إعلان موقف اعتقادي يُملي وجهة في الحياة، وهو صيحة تحرّر إنسانية كبرى تجري على ألسنة ملايين البشر الذين انعتقوا من أغلال الدنيا وتخلّصوا من الهيمنة الأرضية على هاماتهم، قاصدين الله الواحد الأحد، وهذه تقريباً هي خلاصة رسالة الإسلام.
أما الطغاة والمستبدون ومن يعيشون أوهام العظمة والتفرّد؛ فإنّ مناسك الحج تصفع وَعيهم الزائف، إذ لا يرَوْن الجماهير الغفيرة في هذا الموقف العظيم الذي لا نظير له ترفع صورهم أو تهتف بأسمائهم، بل تتجاهلهم وتنساهم وتتوجّه بالدعاء إلى من بيده الأمر كله؛ قيوم السموات والأرض.
رسائل الإحرام
لا تلحظ العيون تباينات ولا تمايزات في مشهد الحج، فالإحرام يجرِّد البشر من مقومات التفاوت التي يتخذونها في المسلك والملبس والهيئة والتعطّر، فيتماثلون في المشهد ويتساوون في آصرة أخوية. هي لوحة إنسانية واقعية لا نظير لها، فلا تقوم على الاختصاص الإثني، بل تتشكّل دون مساس بالتنوّع القائم أساساً بين البشر، وعنوانه اختلاف ألسنتهم وألوانهم الذي هو من آيات الله؛ كما هو مقرر في القرآن الكريم. فالحجّ يُخرِج للبشرية، وليس للمسلمين وحدهم، مشهداً يسرّ الناظرين، تتواءم فيه قيمة المساواة ووحدة الحال، مع ثراء التنوّع الإنساني في أجلى صوره.
لا عجب، بالتالي، أن يسأم المتكبرِّون والمتعالون الإحرام – لباس الحج الموحّد في مواصفاته المبسّطة للغاية والتي ينبغي أن تترافق مع الامتناع عن تسريح الشعر ومسّ العطر – فهذا الإحرام يساويهم مع بقية الناس في الموقف الحافل بوفود الأقوام والجماعات البشرية من القارات جميعاً، ويسلبهم فرص التمايز عن غيرهم أو التعالي عليهم في المسلك أو الملبس أو الهيئة أو حتى التعطّر، فلكل منها رسائل تبعث بها واعتاد البشر توظيفها في التفاضل الشكلي في ما بينهم. يكفي مثلاً أنّ صناعة العطور في العالم غدت حلبة كبرى لتضخيم التمايزات وتعظيم الانطباعات الوهمية في مجتمعات يميل فيها الناس إلى نحت تصوراتهم المتفردة عن شخصياتهم، عبر استعمال العطر الذي يراد منه أن يشي بمكانة صاحبه المتخيّلة وسمات شخصيته المُفترضة. يتعطّل مفعول هذه الاستعمالات في الحج، فعلى تفاوتهم في المكانة الاجتماعية والحظوة أو في المستوى العلمي والثقافي، أو في الأملاك والأموال والأرزاق، أو في العادات والتقاليد والأعراف؛ يقف جميعهم على صعيد واحد، وعليهم الانضباط في محطات محددة للمناسك لا تبديل لها منذ أن كان الحج وكانت المناسك.
رحلة عالمية فريدة
لا تنقضي رسائل الحج الظاهرة ودروسه العميقة؛ ومنها أنه ردّ عملي مكثّف على العنصرية السلالية ونزعات التفاخر الذميمة بين البشر؛ الذين لا نراهم في عالمنا متساوين متماثلين على تنوّع ألسنتهم واختلاف ألوانهم كما نبصرهم على صعيد عرفة يوم الحج الأكبر. وهل يشهد عالمنا تجربة اجتماع متعددة الإثنيات والطبقات كما في موسم الحج الذي يأتيه أقوام لم يجرِّبوا السفر من قبل أساساً أو لم يعرفوا ما يتجاوز حدود قريتهم أو نطاق قبيلتهم؟
إنها ليست رحلة طبقية للمحظيين في مراتب الدنيا كي تبدو مشاهدها خالية من المفاجآت أو مصممة حسب معايير السلوك البشري المُنمّط في زمن العولمة، بل يتجلّى فيها التنوع بكل ما فيه، فينخرط فيها مثلاً منتسبون إلى شرائح وفئات من كبار الأغنياء والمرفّهين كالقادمين من وادي السليكون وبافرلي هيلز وعواصم اسكندنافيا، الذين اعتادوا تناول الطعام بالشوكة والسكين، وصولاً إلى أعماق الريف الهندي وأدغال أفريقيا وجنوب الفلبين حيث يتناولون الطعام بأيديهم مباشرة.
واقع الحال أنّ الحجيج قد جاؤوا من أنحاء الأرض، أي من مجتمعات ترتفع فيها لافتات التفاخر الأجوف بالأنساب والأقوام والألوان والأوطان، وتنشط في بعضها أحزاب وقوى وجماعات وشبكات مصالح تعتاش من خطاب الكراهية والتحريض وإثارة الأحقاد والضغائن وتنميط من يتمّ وصفهم بالآخرين، فتأتي رسالة الحج في هذا المقام لتؤكد بالمثال العملي والمشهد المرئي أنّ الناس سواسية وأنّ مبررات تفاخرهم وهم كبير، وأنّ التفاضل الأجدر لا يكون إلاّ بالعمل الصالح وتقوى الله الذي خلقهم، مع التواضع في السلوك وابتغاء الدار الآخرة، أو كما أعلن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن ذلك في خطبة الوداع يوم عرفة: "أيها الناس! إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى". ولا ريب أنها رسالة للعالمين جميعاً وليس للمسلمين وحدهم أو لحجّاج بيت الله الحرام على وجه التخصيص.
إنها رسالة يعايشها من أقبلوا على الله تعالى قاصدين أوّل بيت وُضع للناس، فيتجرّدون بهذا من شعارات ترتفع في أوطانهم وبرامج تعلو في بيئاتهم. كان من هؤلاء مالكوم إكس الذي وقف، خلال رحلة الحج التي قام بها عام 1964، على المعالجة الإسلامية الواقعية لمعضلة التمايز بين البشر في الألوان بعد أن صعدت في موطنه الأمريكي عنصرية سمراء لمجابهة عنصرية بيضاء. أعادت معايشته هذا الموقف العظيم إنتاج نظرة "الحاج مالك الشباز" للعالم، كما تسمّى مالكوم إكس بعد أداء المناسك. لقد رأى القيادي الأمريكي الأسمر كل أولئك الحجاج الذين "جاؤوا من شتى أنحاء العالم، ومن كل الألوان، من الشقر ذوي العيون الزرقاء إلى الأفارقة ذوي البشرة السوداء، لكننا جميعاً كنا نؤدي المناسك ذاتها، بروح من الوحدة والأخوة"، كما كتب في مذكراته.
إنه الحج الذي يحتفي بهذا التواصل الإنساني الحميد، المتحرر من التحيّزات الأرضية والمتألق بالإيمان ونشدان الجنة. ولنا أن نتصوّر آدم وزوجه وهما يطلّان على هذا المشهد الحافل على تنوّع ذريتهما في الألسنة والألوان، وهو تنوّع لم يَحُل دون اجتماع بني آدم على صعيد واحد يدعون رباً واحداً ويرجون الجنة.
وخلافاً لما نجده في قراءات قومية أو سلالية أو تفضيلية دون الناس عرفتها أديان ومعتقدات ومذاهب عبر التاريخ، فمارست التعالي الماكر على بقية البشر باسم الدين والمعتقد، فإنّ الحج رسالة للناس جميعاً، فليس في الإسلام تفضيل لقوم على مَن سواهم كما لا يقتصر على مخاطبة إثنية معينة، ولا مجال فيه مثلاً لمزاعم من قبيل "شعب الله المختار" التي تحاول مصادرة الربّ تعالى لقوم بعينهم - سبحانه وتعالى عمّا يصفون – كي يصبحوا بموجبها فوق البشر، فهذه مكانة جديرة بالناس كافة، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، فقد كرّم الله تعالى بني آدم على الخلائق جميعاً بالعقل والاصطفاء وعمارة الأرض.
تفاعلات القيم
وفي الحج تتفاعل القيم التي ينبري الإنسان الذي يمضي على خطى الأنبياء، إلى تجريبها في المشاعر المقدّسة. فأعلاها الإيمان والتوحيد بما ينسجم مع الغاية من الخلق والوجود وانفتاح العقل والقلب على إدراك الدنيا والآخرة. وحُقّ للإنسان في هذه الرحلة التي قد لا تتكرّر سوى مرّة واحدة في حياته؛ أن يستشعر قيم التجرّد والتضحية والصبر واحتمال المشاق لأجل ما يستأهل ويستحقّ بجدارة، مع التحرر من ثقافة الاستهلاك الجامحة. وتتألّق في الحج قيم المساواة والتكافؤ والتآخي والمعايشة بين الناس بالمعروف كما لا يحدث في موقف آخر، وكيف لهذا كله أن ينهض دون احترام متبادل؟!
وفي الحج مواقف رمزية شتى؛ منها سعي الملايين بين الصفا والمروة، أسوة بأمّ رؤوم سعت في الموضع ذاته ذاهلة بحثاً عن ماء تسقي به صغيرها الذي أعياه العطش. يسرع الجميع في المسعى على خطاها، وفي هذا تكريم لأمهات الأرض جميعاً، وهم أنفسهم الذين يتضلّعون ماء زمزم الذي ارتوى منه إسماعيل وأمّه هاجر بعد أن قرّت عينها بنجاة وليدها. وفي المناسك استحضار لمناقب أسرة إبراهيم عليه السلام، الأب والأم والابن، وهي رسالة مهمّة في زمن تفكك الأسرة وتقويضها بمعاول ما بعد الحداثة. وفي المناسك تجديد للعهد بمواقف هذه الأسرة النبوية الشجاعة التي يحرِّكها إيمان عميق في مواجهة الغواية التي لا تنفكّ عن مطاردة البشر.
تتواصل الرسالات في هذه المناسك ولا تنقطع، فقد نبعت أساساً برسالة التوحيد من مشكاة واحدة، ففي شعائر الحج اتصال بالرسالات والنبوّات من قبل، وها هي ملايين الأفئدة تهوي كلّ عام إلى البلد الحرام استجابة لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام كما أوردها القرآن الكريم.
رمزية متحررة من سطوة الرموز
وإذ يُعين مشهد الحج الأذهان على استذكار وحدة الأصل الإنساني، فيطمس الفروق المُفتعلة بين الناس ويزيل الحواجز المصطنعة بين خصائصهم؛ فإنه في الوقت ذاته يهيِّئ أذهان الشعوب والمجتمعات والأفراد للمستقبل المنفتح على الحياة الدنيا وما بعدها، فما من موقف في الأرض مثل يوم عرفة في المحاكاة الرمزية للبعث والنشور. إنه استشراف المستقبل وتشوّف الآتي والاستعداد لما سيكون حتماً وإن زاغت عنه الأبصار بفعل انشغال البشر المتأصل بلحظتهم العابرة أو بوطأة انبهارهم بأضواء المدنية الساطعة من حولهم.
إنه من تجليات الرمزية التي ينطوي عليها مشهد الحج، فمناسكه مفعمة بالإيحاءات، لكنها متحررة في الوقت ذاته من سطوة الرموز وهيمنة التعقيدات، فالرمز قد يصبح - إن أطلق له العنان – واسطة تطغى على المشهد أو وثناً يُعبد من دون الله، كما هي خبرات البشر مع العقائد والأديان والأيديولوجيات والأفكار. ومن شأن الرموز أن تستحدث سلطة مختصة بفكّ طلاسمها وتتدخل لحلّ أحجياتها، أو هي الطبقية الكهنوتية التي لم يَسلم منها حتى أتباع الديانات التي كانت في أصلها توحيدية، فتتولى حجب التواصل بين البشر وخالقهم عبر أدوار وسيطة ما أنزل الله بها من سلطان. وما قد تعجز أمم ومجتمعات في عالمنا عن تصوّره اليوم؛ هو أنّ كل هؤلاء الحجيج من الرجال والنساء المعبِّرين عن الأسرة الإنسانية في تنوّع مكوناتها واختلاف خصائصها؛ لم يكونوا في أداء المناسك بحاجة إلى كهنة أو وسطاء، بل تكفيهم إرشادات عامة وعلامات طريق وتطبيقات في هواتفهم الذكية، مع تذكير بتعاليم النسُك الميسّرة. فرمزيات الحج واضحة وبسيطة، وهي تقوم على تجسيد عملي للفكرة بما لا يستعصي على الأذهان جميعاً. لكنّ زيارة واحدة لكنيسة كاثوليكية مشيدة في أوروبا قبل قرون، مثلاً، لن تكون ممكنة بغير دليل يفكّ رموزها الوفيرة ويحلّ إشاراتها المنتصبة في الزوايا والماثلة على الجدران، لمن أراد أن يفهم المشهد من حوله، ولا عجب أن يجد إرثاً ميثولوجياً إغريقياً ورومانياً وتوراتياً ووثنياً متسللاً في ثنايا المشهد ذاته. أما رمزية المناسك فتتأسّس في الحج على التحرّر والتبسيط، وفي الكعبة المشرّفة، مثلاً، تجريد بصري لسمة الوضوح والخلوّ من التعقيد أو الأسرار الباطنة، أما نداء الحجيج فينسجم مع هذا الطابع السابغ: لبيك اللهم لبيك. فمقصد الحج صريح ورسالته واضحة، بلا تعقيدات أو افتعال.
صحيح أنّ من خاضوا هذه التجربة الفريدة والعميقة هم من المسلمين والمسلمات حصرا؛ إلاّ أنّ إشعاعها قابل لأن يتجاوزهم إلى الأمم جميعا، وهي أمم ممثلة بدرجة أو بأخرى في هذا المشهد الحافل. ففي الحج رسائل مرئية ودروس مهمة في متناول البشرية جمعاء، جديرة بالنظر والتأمل والاستلهام، ولعلها متاحة للمعايشة أكثر من أي وقت مضى في زمن قيل إنّ العالم أصبح فيه قرية صغيرة .. قد تكون مكّة المكرمة في موسمها الكبير تعبيراً مرئياً عنه.