الحج بطبيعته ضد العلمانية وضد القُطْرية، فإنه يجمع الناس على قاعدة دينية!
عُرف الحج في الهندوسية والبوذية واليهودية والمسيحية مما يدل على أن الاجتماع الديني قديم ضارب في أعماق الزمان وفي الفطرة الإنسانية، وهو جزء من كون الدين حقيقة إنسانية عميقة. غير أن الحج في الإسلام يمثل نظاما مختلفا لكون الإسلام حضارة ومنهجا للحياة، فهو جزء من طريقة الإسلام في تنظيم الحياة وإنشاء الحضارة.
وفي اللحظة التي تُشَنَّ الحروب على المسلمين وهويتهم، يكون المسلمون أحوج إلى هذا التذكير السنوي بمعنى الأمة الذي يُراد نزعه من النفوس لتثبيت التقسيم الجغرافي والسياسي الذي صنعته الجيوش الغربية في بلادنا، فالحج يقاوم زرع ولاءات تكون أعظم من الدين كالوطنية والقومية والإقليمية واللغوية والعرقية، ولذلك ترصد الكتابات الاستشراقية مغزاه وأهدافه السياسية برغم كون المسلمين يؤدونه كعبادة شعائرية.
في الحج يُعاد جمع الأمة وتعريفها بنفسها (أمة الإسلام) وبأصلها (إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) وبوحيها (الكعبة) وبنبيها (خذوا عني مناسككم) وبأرضها المقدسة (مكة) وبعدوها (الشيطان وحزبه) وبرسالتها (العبادة والجهاد)، وبآمالها في التوحد والنظام، أن تكون الأمة كالحجيج: اتفاق في المظهر والحركة والغاية وإن اختلفت الألوان واللغات والبلدان والأعراق والسمات! وبحقيقة الحياة؛ فليس من مشهد أقوى في الجهاد والزهد من مشهد ذوي الأكفان البيضاء المتجردين من كل متاع الدنيا. لكل هذا فإن مشهد الحج هو المشهد المناقض لكل ما تريد الهيمنة الغربية أن تحققه!!
(1) المستشرقون والحج
حَضَرَتْ رحلةُ الحج في الدراسات الغربية بطريقيْن؛ الأول: دراسات المستشرقين التي اضطرت لتناول الحج لكونه الركن الخامس من أركان الإسلام، ولهذا فإنه موضوع حاضر في الدراسات البسيطة المختصرة والدراسات الموسعة معا. والثاني: كتب الرحالة الغربيين الذين حرص بعضهم على التنكر وحضور الحج بنفسه أو ساقته أقداره إلى الحج مثل فارتيما الإيطالي وبوركهارت السويسري وسنوك هروخرونيه الهولندي –والذي أعد رسالته للدكتوراة عن الحج- وجوزيف بتس الإنجليزي وبيرتون الأيرلندي وغيرهم.
وتعددت الآراء والأنظار في فهم الحج ومعانيه وآثاره، ونظر إليه كل مستشرق في سياق بحثه، ففي تحليله لانتشار دعوة الإسلام يقول المستشرق البريطاني المعروف توماس أرنولد: "إن السيف كان يُمْتَشَق أحيانًا لتأييد قضية الدين، ولكن الدعوة والإقناع -وليس القوة والعنف- كانا هما الطابعين الرئيسين لحركة الدعوة هذه، وإن النجاح الرائع هو الذي أحرزه التجار بنوع خاصٍّ، الذين كسبوا السبيل إلى قلوب الأهالي.. وإلى جانب التجار كانت هناك جموعٌ ممن يصحُّ أن نُسَمِّيَهم الدعاة المحترفين، وهم الفقهاء والحُجَّاج".
وفي تحليله لأوضاع المسلمين في إفريقيا، يقول إيوان ميردين لويس –وهو عميد المستشرقين البريطانيين في الشأن الإفريقي- بأن الحج من أدوات الإسلام في صناعة هوية مشتركة، فالإسلام "يُوجِد رابطة هوية ومصلحة مشتركة تجمع بين المسلمين ذوي الأصول العرقية والانتماءات السياسية المختلفة، وذلك ضمن الظروف المتغايرة في حياة المدن. هذا الاعتراف بتضامن إسلامي أوسع يتجسد بصورة حية في اشتراك الإفريقيين الواسع في الحج إلى مكة"، كما يشير إلى أثر الحج في انتقال اللغة العربية أساليبها ومفرداتها وحروفها الهجائية إلى أقصى شعوب الشرق الإسلامية كالملايو وسومطرة، فـ "الإسلام –بما فيه الحج- شبكة من الاتصالات مع الخارج".
ويظل المعنى الإيجابي الأبرز الذي كرره جمهور المستشرقين هو ما في الحج من دلائل المساواة بين الناس في الإسلام، يقول الكولونيل البريطاني المعجب بحياة المسلمين رونالد فيكتور بودلي: "الحج أعظم شاهد على ديمقراطية الإسلام؛ فهناك يجتمع المسلمون الأوربيون والآسيويون والإفريقيون، والصعاليك والأمراء، والتجار والمقاتلون في نفس الإزار البسيط الذي كان محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه يرتدونه في حجة الوداع عام (632هـ)، إنهم جميعا يتناولون نفس الطعام، ويتقاسمون نفس الخيام، ويُعَامَلُون دون تمييز، سواء أجاءوا من مرافئ سيراليون أم من قصر نظام حيدر أباد، إنهم جميعًا مسلمون".
ومثله يقول المستشرق الأمريكي المشهور ذو الأصول اللبنانية فيليب حتي: "الحقُّ أن الإسلام قد وُفِّقَ أكثر من أديان العالم جميعًا إلى القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية، وخاصة بين أبنائه، ولا شكَّ في أن الاجتماع في موسم الحجِّ له الفضل الأكبر في تحقيق هذه الغاية".
وعلى الناحية الأخرى فأبرز المعاني السلبية التي كررها المستشرقون في شأن الحج هو مسألة "الوثنية"، حتى إن بعض المنصفين مثل دينيس سورا يقول: "إن محمدا يكاد يكون هو الوحيد الذي نعرفه عن طريق التاريخ من بين عظماء مؤسسي الأديان، إذ أن الخرافات لم تستطع أن تخيفه... فقد كان العرب يعبدون الجن والأرواح التي تقطن الأحجار، إلى جانب عدد من آلهة القبائل المختلفة. ولقد محا الإسلام هذا كله، ولم يبق منه سوى الحجر الأسود. فقد ظل موطن القداسة الجوهرية. إذ وضعه محمد تحت حماية الخليل إبراهيم. ومن الممكن أن تكون هذه سياسة قصد بها التوفيق. كما يمكن أن يكون ذلك ناشئا عن احترام شخصي".
(2) الرحلات الغربية إلى الحج
وأما الرحلات الغربية إلى الحج، فلقد كان أول من ادعى الوصول إلى مكة المكرمة هو جون كابوت (1480م) أي قبل سقوط الأندلس باثني عشر عاما، لكن لم يصل إلينا شيء مما كتبه، أما أول ما وصلنا فهو رحلة الإيطالي لودفيجودي فارتيما (1503م) والذي انتحل اسم يونس المصري وصفة جندي مملوكي، ثم جوزيف بتس الذي حج باسم "يوسف" (1680ه)، ثم تبعه الإسباني دومنيكو باديا ليبليج (1807م) باسم "علي العباسي"، ثم تبعه الرحالة السويسري المشهور جون لويس بوركهارت الذي انتحل اسم "إبراهيم" ووصل إلى مكة (1814م)، ثم الرحالة البريطاني ريتشارد بيرتون متخذا اسم "عبد الله" وصفة طبيب هندي ذي أصول أفغانية (1853م)، ثم الفرنسي جيل جورفيه كورتلمون متخذا اسم "عبد الله بن البشير" (1894م).
ولقد تعددت أغراض الرحلة إلى الحج، فثمة من كان مجبرا على ذلك لكونه عبدا مثل جوزيف بتس، وثمة من كان دافعه الفضول كما نرجح في كتابات من لم تشي كتاباتهم بغرض آخر، وثمة من تبدو في رحلته الأغراض التجسسية كما في رحلة بيرتون البريطاني، وثمة من تصرح الدلائل حوله أن غرضه كان استعماريا قحا كما في رحلة هروخرونيه الهولندي.
وبالعموم فلئن غابت التجربة الروحية بالعموم عن الدراسات الغربية، فإنها قد تميزت برصدها الآثار الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بأكثر مما تعرضت له الرحلات العربية الإسلامية، وبعض ذلك راجع إلى العين الغريبة التي تنظر إلى الحدث الجديد فترصد فيه ما لا يلمحه من اعتاد عليه وبعضه الآخر راجع إلى مهمة الرحالة المهتمة بجمع المعلومات، بالإضافة لأمور أخرى.
لكل هذا كانت الرحلات الغربية إلى الحج أكثر ثراء في وصف المجتمعات الإسلامية وثقافاتها وعاداتها وطرق الحج من الرحلات العربية والإسلامية.