من فضائل الربيع وثوراته المباركة كشفه الذي لا ينتهي عن خصائص داخلية في بناء الأمة الكبير، وفي بعض مميزات البناء ومكونتها الفارقة. "لقد فشل الربيع العربي"، أو هكذا يحلوا لأعدائه أن يصِفوه اليوم وهو في أعسر مراحله الانتقالية، بعد أن قدمت الجماهير العربية وما زالت تقدم قوافل الشهداء في سوريا وليبيا واليمن. الربيع العربي وثوراته التاريخية لم يفشلا، بل نجحا كل النجاح بأن حوّلا وعي الجماهير العربية تحولا نوعيا كشف لها جزءا كبير من مكونات المشهد ودور الفواعل فيه.
فالنجاح هو نجاح ربيع الجماهير التي كشفت وهن الحاكم وهشاشة النظام الاستبدادي، الذي سقط بسرعة كبيرة وبشكل مريع، وليس صمود النظام في سوريا صمودا لمنوال الاستبداد، بل هو صمود للإمبراطوريات والقوى العظمى الراعية لمنوالات الاستبداد، وهي القوى التي تدخلت مباشرة لحماية نظام الأسد من السقوط. نجاح الربيع العربي يتجلى كذلك في كشف العجز الكبير الذي تعاني منه المعارضات العربية متى وجدت، وبكل أشكالها الأيديولوجية دون تمييز.
المعارضة العربية الكلاسيكية نوعان أساسيان: أوّلهما معارضة النظام أو بتعبير أدق المعارضة التي يصنعها النظام من أجل الإيهام بالتعددية. أما النوع الثاني، فهي المعارضة الطبيعية أو تلك التي تخرج من رحم النظام مباشرة، بل تكوّنت خارج الإطار السياسي والمعرفي والثقافي، الذي يسمح به نظام الحكم الاستبدادي في المنطقة العربية.
المعارضة الأولى بأصنافها الإسلامية واللبرالية والقومية واليسارية هي دكاكين قريبة من النظام تتماهى مع مواقفه، وتتحرك داخل الإطار المرسوم لها، وبشكل يتفق مع الأسباب التي من أجلها خُلقت، لكنها من ناحية أخرى تبقى معارضة غير قادرة على تجاوز دائرة الفعل التي رسمها النظام أي أنها تسقط بسقوطه مهما حاولت التلوّن، مثلما يحدث للأحزاب العلمانية واليسارية والقومية في دول الثورات العربية بعد سقوط مظلة الاستبداد التي كانت تظللها.
لكن الكارثة الكبرى التي وضعتها ثورات الشعوب تحت دائرة الضوء هي العجز الكبير الذي تعاني منه المعارضات العربية، التي لم يصنعها الاستبداد بشكل مباشر، بل نشأت مطالبة بزواله، وناضلت طويلا لأجل ذلك. هذه المعارضة بكل ألوانها الأيديولوجية فشلت فشلا ذريعا في إنجاح المسارات الانتقالية لثوراتها، بعد أن نجحت الجماهير الشعبية القاعدية في إسقاط رأس الاستبداد.
في تونس، وفي مصر، وفي سوريا، وفي ليبيا، خرجت المعارضة العربية الخاسر الأكبر من كل التحولات السياسية التي عرفتها هذه البلدان؛ بسبب التشرذم الكبير لنخب هذه الأحزاب، وانكشاف صراعها على المناصب وعلى الوجاهة الكاذبة في أحيان كثيرة جدا. من بين أخطر ما يسم المعارضة العربية وما يربطها بخصائص الحاكم العربي أيضا هو ارتباطها بالخارج وارتهان أجنداتها لأطراف خارجية، وهو ما ثبت جليا خاصة في حال الثورتين السورية والليبية، ما ساهم كذلك في إفشال المسار الانتقالي.
المُعارض العربي يحمل في بذور نشأته صورة من يُعارِض فهو يحمل في لا وعيه الباطن نموذج الزعيم الخالد، وذلك عبر محورين: يتمثل الأول في أنه عاش ونشأ محكوما بردود أفعال لفعل الاستبداد، أي أنه يتحرك مشروطا ومجاريا لممارسات المؤسسة القمعية، ويتجلى الثاني في أنه استنسخ عن وعي أو عن غفلة طبائع الاستبداد.
كيف نفسّر مثلا تشرذم النخب السياسية العربية وزعمها الذي لا ينتهي بأنها صاحبة الحقيقة المطلقة، وأنها الوحيدة التي تملك الحلول الفعلية الناجعة، سواء كانت يمينية أو يسارية وسطية أو ليبرالية. المعارضة العربية تُعادي التنوّع، ولا تؤمن بالاختلاف والتعايش، بل تتآكل من الداخل في حروب الزعامة التي لا تنتهي، وتسيطر عليها الولاءات العائلية والتحالفات المصلحية التي انكشفت خلال الربيع وثوراته.
كل هذه الخصائص التي تذكّر بالحاكم ونظامه، وبصورة الزعيم وأحلامه، هي التي منعت المعارضة السياسية من النجاح ومن قيادة المسار الانتقالي بعد الثورات العربية.
اليوم تُطرح على أغلب الأحزاب السياسية العربية رهانات مرحلية كبيرة وحاسمة، وهي رهانات ستحدد مستقبل الدور الذي تلعبه هذه الكيانات خلال المواعيد السياسية القادمة، بل إن بعض هذه الرهانات يتعلق بوجود هذه المعارضة السياسية نفسها. اليوم تتحرك الفواعل الاجتماعية نحو القواعد للتخلص من سقف الخطاب النخبوي ومن زيفه، بعد أن عجز حقا عن تلبية استحقاقات المرحلة في حدها الأدنى.
إن التحرر من تبعات النظام الاستبدادي ومن أثره القاتل على نظام المعارضة العربية، بنية ومضمونا وفعلا، هي من بين أوكد أولويات النخب السياسية العربية في سبيل بناء أسس صلبة لمشاريعها المستقبلية القادمة. فالتحرر من وهم الزعامة، ومن أحادية التفكير، ومن الولاء للخارج، والانعتاق من ربقة الأيديولوجيا ومن أغلالها، هي اليوم أولى أولويات البناء السياسي الجديد والممكن للنخب السياسية العربية بشكل خاص.