إذا تتبعنا المآلات الواقعية للثورات العربية، سيكون من الصعب على المراقب المنصف أن يشكك في أنّ الغالب على الفضاء العام في تونس - وفي غيرها من البلدان العربية - هو "الخاسر السّيئ"، أي ذاك الفاعل السياسي الذي تدفعه نتائج
الانتخابات - عندما لا تجري بما يهوى - إلى أن يتحول إلى كائن "لا وظيفي" (dysfonctionnel) في مسار الانتقال الديمقراطي، أي كائن يساهم في تعطيل الاشتغال الطبيعي للحقل السياسي، وقد كان من المفترض فيه أن يعمل على ترسيخ الثقافة
الديمقراطية وإخراجها من الوضع الانتقالي الهش.
لعل من أهم ميزات الديمقراطيات الليبرالية الراسخة، هو التزام المتنافسين على السلطة بضوابط العمل السياسي وبمحدداته القانونية والأخلاقية. فمن غير المفكر فيهم عند جميع الفرقاء أن يديروا خلافاتهم –مثلما يفعل الخاسر السيئ - بمفردات غير سياسية (كمفردات الصراع الوجودي ومنطق الإقصاء والنفي المتبادل)، كما أنّ من غير المفكر فيه عندهم أن يستقووا بالمؤسستين العسكرية والأمنية أو بجهات أجنبية؛ قصد ضرب الخصوم السياسيين. ولذلك يمكننا أن نبحث عن السمات الأساسية للخاسر الجيد في هذه الديمقراطيات الراسخة. فمن هو الخاسر الجيد الذي هو المقابل الموضوعي والمفهومي للخاسر السيئ؟
الخاسر الجيّد في السياسة هو الذي يرى في خسارته "الجزئية" المتموضعة في سياق مخصوص، نتيجة منطقية لصيرورة كبرى من الخيارات والمواقف والتحالفات والانحيازات، التي لم ينجح في استباق "آثارها المنبثقة" – أي غير المقصودة - بطريقة "عقلانية" يحكمها مبدأ الواقع لا مبدأ الرغبة. والخاسر الجيد هو ذلك الشخص الذي يحاول أن يتجاوز استراتيجيته الفاشلة القائمة على استبعاد أن يحصل ما يعاكس رغبته، ولذلك يُموضع خسارته بين نقطتين من الزمن حتى يُكسبها "دلالة" نضالية حقيقية: نقطة أولى هي الأداء السّيئ المفضي إلى الخسارة - والأداء هنا هو مجمل الأفكار والمفاهيم والإشكاليات، والحلول التي تمّ على أساسها تمييز الهوية "الخاصة" له في المجال العام باعتباره "فاعلا جماعيا" في المجال السياسي - ونقطة ثانية هي "المراجعة النقدية" التي تُدمج النتيجة السابقة ضمن منظور استراتيجي عام يجعل منها مجرّد لحظة معرفية - سياسية تقبل التجاوز الجدلي، عبر تفكيك مقدّماتها الفكرية وشروطها الموضوعية المفضية "منطقيا" إلى نتائجها "الانتخابية" مهما كانت كارثية في المستوى "الآني" والمباشر.
الخاسر الجيد في السياسة هو الذي يستطيع أن يتخلّص من سلطة "الذاكرة المؤدلجة"، سواء في تعرّفه إلى ذاته، أو في "نظام التسمية" الموضوع لإدارة الصراع والتحالفات مع "الآخرين" - باعتبار الآخرين هنا هم أصناف من الناس تعظم "غيريتهم" وغرابتهم، بل عداوتهم بقدر ابتعادهم عن النواة الصلبة لموقع إنتاج المعنى "السياسي" الذي هو في التحليل الأخير مجرّد صياغة لتضامنات إيديولوجية، ومصالح مادية ورمزية واعية وغير واعية - والخاسر السياسي الجيّد هو ذاك الذي يستطيع أن يتخلّص من سلطة الثنائيات التي أوصلته إلى خسارته، ليبحث عن موقع "ثالث" يكون تجاوزا "جدليا" للمواقع التقليدية المتنازعة: ثنائية إسلامي/علماني، ثنائية تقدّمي/رجعي، ثنائية إسلامي/حداثي، المقابلة بين الإسلام والدولة المدنية، التسوية بين العقلانية والاغتراب عن الهوية الجمعيّة، عدم مغادرة الموقع "الصدامي" اللاواعي في إدارة الاختلاف "الفكري" مع خصومه الإيديولوجيين.
الخاسر الجيد في السياسة هو ذاك الذي يخرج من سلطة "الاستعارة الرّعوية" التي ما زالت تتحكّم في أغلب النخب الحداثية، رغم "علمنة" مفاهيمها "ظاهريا. فكيف يمكننا أن نفهم احتقار أغلب "النخب" السياسية والإعلامية والأكاديمية لاختيارات الشعب إذا لم يكن ذلك الموقف - في جوهره وفي معناه العميق - تعبيرا عن تجلّيات مرَضية لاستعلاء "ذوي الدماء الزرقاء" - أي الذين يُميّزن أنفسهم "ذاتيا" بحكم الثقافة لا بحكم الأصل - على "الرّعية" "الحمقاء" أو "الجاهلة" التي خانت انتظاراتهم، ولم تقبل "أنوارهم" و"ثوريتهم"، وغير ذلك من المفاهيم التي لا معنى لها خارج "أوهام نخبتنا الأرستقراطية - الإقطاعية" في وعيها، البرجوازية في تضامناتها الاجتماعية الحقيقية.
الخاسر الجيّد في السياسة هو الذي يقرأ "الخسارة" بغير المفاهيم والرؤية الفكرية التي أوصلت إليها، لأنه إن قرأ خسارته باستصحاب ما أدى إليها، فإنه سيقترب لا محالة من "الخاسر السيّئ" ولن يكون مصيره إلا "العود الأبدي" النيتشوي في مظهره الأكثر دراماتيكية. ولن أتحدّث عن الخاسر السيئ بعد أن يدخل دائرة التيه - أي دائرة "المكابرة" المفضية بالضرورة إلى إعادة إنتاج شروط الهزيمة - لأنه سيكون آنذاك "المقابل المطلق" لكلّ ما يمكن أن يتّصف به "الخاسر الجيّد" من الشجاعة "النقدية"، ومن القدرة على استثمار "لحظة الأزمة" لبناء خطاب "تصالحي" و"تواصلي" يكون بعيدا عن منطق الاستئصال الذي يحاول تثبيت بنية سلطوية مخصوصة ومنع أي تعديلات - جزئية أو جذرية -، قد تمس آليات توزيع الثروات المادية والرمزية.
قد يكون من نافلة القول الإشارة إلى أنّ أغلب الوجوه التي "تستعمر" المشهد الثقافي والإعلامي التونسي بعد الثورة؛ هي تجسيد لكلّ ما يناقض "الخاسر الجيّد". فهذا المفهوم هو مجرّد "إمكان" تاريخي قد ينبثق داخل المجتمع السياسي - بإسلامييه وعلمانييه، إذ على
الإسلاميين أيضا أن يُوطّنوا أنفسهم على أن يكونوا "خاسرين جيدين" إذا ما أعرض الشعب عنهم - أمّا في مرحلتنا هذه، فعلينا أن نفهم أنّ خطورة "الخاسر السيئ" وقدراته التدميرية لمسار الانتقال الديمقراطي تزداد طرديا كلما واجه "رابحا سيئا". وهو ما يعني أن المسؤولية السياسية والأخلاقية لا تنحصر في جهة معينة، بل هي مسؤولية كل الفاعلين السياسيين مهما كانت مواقعهم بعد الانتخابات. فعلى "الرّابح" أن يظهر أنه لا يريد تأبيد ربحه بخلق شروط موضوعية تجعل من المحال – أو على الأقل – من الصعب الحديث عن التداول السلمي للسلطة، أما "الخاسر" فعليه أن يرى "غير ما يريد" أو "غير ما يطيق" - أي عليه أن يكون في مستوى ادعاءاته الديمقراطية، وأن يرفض الانزياح بمنطق الصراع السياسي وأدواته إلى مناطق أخرى قد ينتفع هو منها في المدى القريب، ولكنها ستكون كارثة على المسار الديمقراطي وعلى السيادة الوطنية ذاتها في المستوى الاستراتيجي- وهو ما يمكن التمثيل له بالتحالف مع الجيش ومع الدولة العميقة برؤوس أموالها وأجهزتها القمعية، بل باستعداء القوى الخارجية والتحالف معها لضرب الخصوم الإيديولوجيين-.