كثيرا ما نبالغ في قوة أمريكا وقدرتها على وضع مخططاتها حيز التنفيذ وجعْل ما ترنو إليه واقعا، ويفوتنا أن الأمريكان في النهاية مجرد بشر، ينجحون ويفشلون.
بعد إجهاض المحاولة الانقلابية في
تركيا، صارت مسألة ضلوع أمريكا في التخطيط للانقلاب محل شبه إجماع، وذهب البعض إلى أن التآمر الأمريكي للإطاحة بالقيادة التركية كان فشله متعمدا من قِبل الأمريكان، بهدف خلق دافع قوي للجيش، للقيام بعملية انتقامية شاملة بعد إذلال جنرالات الانقلاب، ومن ثم يتعامل الجيش مع الشعب بحالة من القسوة في الانقلاب الكبير الذي تجهزه أمريكا.
ومن وجهة نظري، أستبعد هذا الطرح، أعني الإفشال الأمريكي المتعمد للانقلاب تمهيدا لانقلاب أكبر، ذلك لأن المحاولة الانقلابية الفاشلة تبعتها عدة تغيرات تصب في صالح التماسك الداخلي، وتقوي شوكة القيادة التركية:
أولا: تلاحم الشعب التركي مع قياداته إلى درجة أن الشعب يتم تعبئته برسالة جوال، أو تصريح قصير للقيادة، بدليل استمرار وجود الشعب في الميادين للحفاظ على الديموقراطية بتوجيه من
أردوغان.
ثانيا: ظهور المعارضة التركية بهذا النضج السياسي والحس الوطني رغم اختلافها الأيديولوجي مع حكومة العدالة والتنمية، صيانة للديموقراطية، واحتراما لخيارات الشعب التركي، وعملا بالمثل التحذيري (أكلت يوم أكل الثور الأبيض).
وهذا بدوره قد أوجد قنوات التقاء جديدة بين القيادة وأحزاب المعارضة، أبرز مظاهرها موقف زعيم الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة)، في رفض الانقلاب على الديموقراطية، وتوافقه مع الحكومة في مطالبة أمريكا بتسليم
غولن، إضافة إلى زيارته القصر الرئاسي ولقاء أردوغان لبحث الرؤى حول المحاولة الانقلابية الفاشلة.
ثالثا: إجراءات التطهير التي تقوم بها الحكومة التركية، حيث جاء الانقلاب، كما عبّر أردوغان، "منحة من الله"، حيث هيأ وضع عناصر الانقلاب تحت طائلة القانون لتطهير البلاد منهم، وهذا من شأنه أن يضعف الكتلة العسكرية الموالية لأمريكا.
رابعا: الانقلاب الفاشل وضع القيادة التركية وشعبها في حالة استنفار دائم لسد الثغرات تفاديا لحدوث انقلاب آخر، ويستبعد أن يكون هذا الأمر البسيط غائبا عن التخطيط الأمريكي.
خامسا: الانقلاب الفاشل أظهر قوة الشرطة التركية وقدرتها على التحرك السريع، وأثبت ولاءها للدولة والقيادة، الأمر ذاته يقال في جهاز الاستخبارات.
كما أثبت الانقلاب أن قطاعا كبيرا من الجيش لا يمثل الكيان الموازي، ولا ريب أن هؤلاء ينظرون إلى الانقلابيين الذين عوقبوا أو في طريقهم للعقاب، على أنهم خائنون لا يمثلون الجيش التركي.
سادسا: الانقلاب وجّه الأنظار ناحية دول عربية متواطئة بدعم وتمويل الانقلاب، وتَعمّد أمريكا تنفيذ انقلاب فاشل مِن شأنه أن يفقدها عميلا وممولا ثقيلا - من المؤكد أنها تحتاجه في انقلاب آخر محتمل - لأنه صار ورقة محروقة.
كل هذه التغيرات – التي يستبعد سقوطها من الحسابات الأمريكية- تبدد الاتجاه بأن أمريكا خططت لانقلاب فاشل منذ البداية ليكون مجرد إحماء لانقلاب أكبر.
من وجهة نظري، أنه تم التعجيل بموعد الانقلاب، لأنه تم في ظروف غير ملائمة تماما، فمثلا جاء بعد قرار إعادة العلاقات مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وتحسين العلاقات مع روسيا، ما يعني خروج تركيا من العزلة الدولية، وهو أمر يقطع الطريق أمام جنرالات الانقلاب لتبرير انقلابهم بدعوى إدخال القيادة دولتها في قطيعة مع الدول الأخرى بسبب توجهاتها الإسلامية.
كما جاء في حقبة دخلت فيها تركيا مجموعة العشرين التي تضم أقوى اقتصاديات العالم.
إضافة إلى ما سبق، أتى الانقلاب في توقيت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما دعم موقف تركيا لتكون البديل في الاتحاد.
أرى أن فكرة التخطيط الأمريكي لانقلاب آخر مستبعدة على الأقل في العقد الحالي، لكنها ستركز على تقويض القوة الاقتصادية لتركيا، والتي كانت كلمة السر لدى القيادة لاكتساب تلك الشعبية.
الازدهار الاقتصادي هو اللغة التي تفهمها الشعوب، وهو الشيء الذي ركز عليه الحزب الحاكم على مدى 14 عاما، وربما يكون من صحيح القول أنه كلما كانت القيادة التركية ناجحة في هذا الجانب، ضعفت الفرصة أمام انقلاب آخر.
أغلب الظن أن القيادة التركية لن تطبق حكم الإعدام على الانقلابيين، وستقطع الطريق على من ينتظر إقرار وتنفيذ هذا الحكم لاستغلاله في تضييق الخناق على أردوغان سياسيا وحقوقيا.. نعم القيادة تحتوي العاطفة الشعبية التي تطالب بإعدام الانقلابيين، لكن التقديرات السياسية حتما ستفرض نفسها.
القيادة التركية لديها الكثير من العمل لتفادي تعرض البلاد لانقلاب آخر:
- تكثيف العمل على الازدهار الاقتصادي.
- تنمية وتوعية الشعب التركي ليصبح البطل الأول دائما في مواجهة الانقلابات.
- استمرار فتح القنوات مع القوى المعارضة.
- التطهير المتزن للمؤسسة العسكرية.
- زيادة قدرات جهاز الاستخبارات للتنبؤ بأي محاولات انقلابية أخرى.
- تطوير قدرات الشرطة التركية والتدريب المستمر على خطط متعددة لإجهاض أية انقلابات عسكرية.
حفظ الله تركيا قيادة وشعبا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.