لم يكن احتلال
تونس العسكري سنة 1881 هو الشرط الأقوى الذي سمح بهيمنة فرنسية على البلاد. بعد سنوات من التحرش والديون الطائلة والأهم من ذلك الفساد الذي كان يقوده مسؤولون كبار في الدولة مثل خزندار وبن اسماعيل، بدعم من تجار كبار مثل بن عياد نجح القناصل الأجانب في فرض رقابة مباشرة على التسيير المالي للدولة تحت تسمية "الكوميسيون المالي" سنة 1869. وكان الصادق باي آنذاك عين خير الدين باشا الذي كان من المصلحين القلائل داخل الإدارة لترؤس اللجنة، لكنه أقاله بعد ضغط القناصل. بعد أكثر من مئة سنة ونيف إذا قدر لنا ان نستخلص درسا من كل ذلك سيكون أن مصلحتنا في مواجهة الفساد مرتبطة مباشرة بحماية قدرتنا على تسيير شؤوننا الاقتصادية والمالية. وبمعنى آخر تشجيع وتطبيع الفساد يؤدي مباشرة إلى التقليص من قدرتنا على حماية حقنا الأساسي في السيادة. وأن الديمقراطية، بمعنى سيادة الشعب على نفسه، ستكون بلا معنى إن كان التسيير المباشر لشؤوننا بيد "كوميسيون مالي" أجنبي.
وإن كانت عودة الاستعمار بأشكاله "الحديثة" في نموذج القرن التاسع عشر خاصة في إطار الاحتلال العسكري المباشر صعبة المنال في السياق ما بعد الكولينيالي (ما حث في العراق مجرد مثال على ذلك)، فإن استعادة القرن التاسع عشر في شكل الإشراف المالي المباشر على مقدرات الدول أمر ممكن. وفي الحالة التونسية في إطار حكم السبسي وحلفائه أصبح على ما يبدو أمرا في سياق التحقق. إذ إن المؤشرات على عودة مرحلة "الكوميسيون المالي" أصبحت جدية ولا تتعلق بأي سياق مؤامراتي.
فقد ورد في التقرير الأخير لمنظمة "مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط" حول ميزانية الحكومة الفدرالية الأمريكية المخصصة للشرق الأوسط لسنة 2017 والذي نقله الصحفي التونسي ضياء الدين الهمامي ما يلي: "على سبيل المثال تونس تسعى لتركيز مسؤولين وخبراء أمريكيين من مختلف أجهزة حكومة الولايات المتحدة للعمل مباشرة داخل الوزارات والوكالات الحكومية التونسية. تونس لديها مستشار من وزارة الخزانة الأمريكية قار داخل البنك المركزي لتونسي، وهي تسعى إلى الحصول على مستشارين مماثلين للمساعدة في توفير المساعدة التقنية المباشرة في إجراء إصلاحات في هياكل أخرى من حكومتها".
نحن هنا بدون مساحيق في سياق "كوميسيون مالي"، يجد موطئ قدم مع الذهنية التي لا ترى ملاذا إلا في الديون الممنوحة من المؤسسات المالية الدولية بأجندة "الإصلاحات" الواردة فيها كما هي، وأيضا في ذهنية التحالف الحكومي بقيادة السبسي التي ترى ضرورة أساسا لحماية الفساد وعدم الحديث عنه لتحريك الاقتصاد. المعضلة أن جزءا كبيرا من ذلك يتم في سياق ذريعة مواجهة الإرهاب، في حين أن ما يحدث من اهتراء للسيادة وتعميق شروط الأزمة الاجتماعية القادمة، هي عوامل اساسية في توسيع رقعة الإرهاب.
الدراسة الأخيرة التي صدرت منذ أيام عن كلية "واست بوينت" الأمريكية العسكرية حول "المقاتلين الأجانب" في التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش هي الدراسة العلنية الأهم لأنها لا تعتمد تقديرات بل تعتمد على وثائق التنظيم التي تم تهريبها منذ أسابيع قليلة، حوالي 4 آلاف وثيقة تحمل عديد المعطيات. وهنا بوضوح التونسيون في الصدارة بأكثر من 550 مقاتل من جملة 4 آلاف وبالتالي الأولى مقارنة بعدد السكان. الدراسة تؤكد المعطيات التي اطلعنا عليها في السياق التونسي وهي أننا بصدد جيل ولد أساسا في الثمانينيات وتلقى تعليمه في التسعينيات وسنوات الألفين (زمن بن علي) وفي غالبه لم يكمل تعليمه الجامعي وأحيانا الثانوي. وبالنسبة للعينة التونسية فإن معرفتهم الدينية ضعيفة (15 فقط من جملة أكثر من 550 قالو إن لديهم معرفة متقدمة). والأهم أن المهنة الغالبة إما "غير مؤهل/عامل" أو "تاجر" وهنا الأرجح طبعا عمل تجاري هش وغير منظم بما يؤكد أن الغالبية من مستويات اجتماعية متواضعة. بمعنى آخر نحن بصدد إرهابيين ليس لمعرفة دينية وقناعات متطرفة أساسا بل بسبب جيل مهمش دينيا لكن ايضا مهمش اجتماعيا واقتصاديا وعائليا.
المثير للانتباه أنه لم تتعرض تقريبا أية وسيلة إعلام خاصة من الأكثر مشاهدة واستماعا إلى ما ورد في تقرير الميزانية الأمريكية. يغرق التونسيون كما هي العادة في مشاكل آخرى. آخرها الصراع المتفاقم بين المنظمة النقابية ووزير الصحة.
الحقيقة لقد تم استخدام اتحاد الشغل من قبل السبسي (ومن وراءه) والآن تتم شيطنته. ميزانية وزارة الصحة زادت بشكل طفيف بين 2012 والآن. لكن القاسم المشترك بينها عند بداية حكم الترويكا والآن هو أن معظمها أي نفس النسبة (تقريبا 85%) تذهب لكتلة الأجور ومعظمها للأعوان من غير السلك الطبي وذلك ناتج عن زيادات مطردة. لم تعترض أجهزة دعاية المنظومة حينها بل صبت الزيت على النار.
الصراع الحالي بين اتحاد الشغل ووزير الصحة والأخطاء الواضحة لمسؤولين نقابيين خاصة في مستشفى صفاقس (التي لا يمكن عدم التنديد بها) تغطي على الأداء المتواضع جدا للوزير بشهادة مسؤولين سامين في وزارته. هذا بالإضافة إلى الأسئلة الكبيرة حول كيفية تسييره للصفقات في القطاع الصيدلي (تنتظر لجنة الصحة في البرلمان موعدا لمساءلته). وتخفي معركة أخرى تتم في الكواليس بين وزراء حكومة يتنافسون على خلافة رئيسها "وهو حي" من خلال تصدر معارك دونكيشوتية-إعلامية ضد "الشيطان الجديد" (عوض الترويكا أصبح اتحاد الشغل). في سياق فوضى عارمة لـ"ائتلاف حكومي" يمكن أن يختلف حول عدد من القضايا "المصيرية" (بما في ذلك ماذا سيدرس التلاميذ في عطلة الصيف وهم لا يدرسون أصلا خلال السنة الدراسية) إلا نقطة واحدة: التركيز التدريجي لكوميسيون مالي وتطبيع الفساد عبر قانون "المصالحة/العفو".
أكبر الأوهام أن هذه الحكومة تريد تطبيق القانون إلا أن قوى شريرة لا تتركها تقوم بذلك.. من المفروض أن أي عاقل يستطيع أن يلحظ الآن أن الحكومة مستعدة حتى منح عطل مرضية خالصة الأجر لكي لا يطبق أعوان الأمن القانون على أصدقاء السبسي وبن علي من المتهمين بالفساد. وكل ذلك هو تواطؤ عملي ومباشر في سياق تركيز "الكومسيون المالي" والذي لا يمكن تغطيته بتكرار شعار "تحيا تونس!" الذي تخصص فيه انصار السبسي.