داخل فصل مدرسي من أيام خمسينيات القرن الماضي، يقف معلم سوري أمام تلامذته، في مشهد من فيلم (أحلام المدينة - 1984) للمخرج محمد ملص، يشرح معنى الرقيق.
المعلم: الرقيق كلمة عامة تطلق على من فقد حريته من الناس. فالمسترق الأبيض يدعى مملوكا والأسود عبدا، والنساء البيض جواري والنساء السود إماء.
كان حلم التحرر والمساواة وقتها عملة رائجة وشعارا سعت الشعوب إلى تحقيقه بالانعتاق من ربقة الاستعمار الغربي الخارجي وبعدها التحرر من التكون الجنيني لاستبداد الدولة القطرية الوليدة.
بعدها بسنوات وفي عهد الأسد الوالد تساوى السوريون في مفهوم الاستعباد للزعيم/الفرد والبعث/التنظيم الحزبي، لولا بعضا من الأحرار الحالمين الذين رفضوا الخنوع فواجهوا السجون والتعذيب والتنكيل مصيرا، فالزعيم وزبانيته يريدون لليل الطويل أن يدوم.
يتساءل الشاعر السوري غسان الجباعي في مشهد من فيلم (سُلّم إلى دمشق - 2013) لنفس المخرج، حيث يجسد دور والد زينة، المنتحرة يوم اعتقاله، وهو غير بعيد عن حياته الحقيقية بعد أن قضى سنوات في سجون النظام السوري: بتساءل بيني وبين حالي ليش؟ ليش؟ شو الهدف إنك تحبس عشرات الآلاف من الناس 17 سنة و10 سنوات و5 سنين؟ شباب بأول أعمارهم بيفوتوا ع السجون بدون ذنب، بدون محاكمة، بدون سبب. واحد قالك لأ بس، أنا ما بتفق معك بالرأي، إيلي رأي آخر تحبسه 10 سنين. ليش؟ ليش؟ ليش..
كان ذاك جيل التضحية حاول تمهيد الطريق لجيل "التمكين" لكنه فشل وتحول هؤلاء الذين كانوا ينتظرون التمكين لحطب حرب أقسى وأمر جعلتهم مجرد كومة حطب تتقاذفها القوى الإقليمية والدولية وقوى أخرى لا أصل لها، في انتظار تسويات خارجية تتوزع اجتماعاتها في مدن ومنتجعات سويسرا والنواحي. لكن هل قدر السابقون تضحيات من قالوا للمستبد كفى، وهل سيقدر اللاحقون تضحيات الجيل الحالي الذي توزع في السجون والمنافي والمخيمات وقودا لتغريبة سورية معاصرة مستمرة على يد الأسد الوريث؟
يعود المعتقل السابق غسان الجباعي ليرد: لما بطلع على الشام وبشوف الناس راكضين على شغلهم موطيين روسهم وساكتين، والناس ايلي راجعين على بيوتهم وحاملين خضرة ولحمة، ولما بشوف الناس يلّي قاعدين قدام التلفزيون يتفرجوا بحس وبفهم ليش سعد الله ونوس كتب مسرحيته الفيل يا ملك الزمان.
هؤلاء ممن اختاروا العبودية طوعا أو على الأقل سكتوا عن الظلم جبنا.
في فيلم (الليل الطويل - 2009) للمخرج حاتم علي، يكون خبر الإفراج عن سجناء سياسيين، بعد سنوات من الاعتقال في سجون النظام، مناسبة لتصفية الحسابات بين أفراد العائلات الذين توزعت ولاءاتهم وتفرقت سبلهم في ظل منظومة مجتمعية لا تهتم بأمر "الغائب" ولا تلقي بالا لتراثه ولا للمبادئ التي كانت وراء تغييبه قسرا. و"الحي أبقى من الميت" كما يقول العقيد المتقاعد، في فيلم (دمشق مع حبي - 2009) للمخرج محمد عبد العزيز، وهو الذي يقضي وقته في مشاهدة مباريات كرة قدم مسجلة فاتته طوال مشاركته في سنوات الحرب بلبنان ويتفاعل معها كأنها بث حي.
في بيت السجين السياسي كريم، المفرج عنه، يصارع الابن الأكبر نضال الزمن لإعادة البيت إلى ما كان عليه قبل أن يتحول لسكنه العائلي الخاص. كانت والدة نضال المتوفاة تعتقد أن الأب لن يعود أبدا. وكان هناك كفاح الإبن الأصغر والبنت الوسطى عروبة في أول لقاء يجمع الثلاثة منذ سنوات.
كفاح: صورته الكبيرة ايلي كانت معلقة هون، وينها؟
نضال: موجودة. دوروا عليها بابا (موجها الكلام لابنيه). رجعوا كل شيء مثل ما كان.
كفاح: المهم يجي يلاقي ولاده.
نضال: احنا موجودين.
كفاح: ثائر؟
نضال: صحيح عروبة؟ شو قال ثائر؟
عروبة: أكد لي أنه أول ما يلاقي حجز طيران حيجي فورا.
كفاح: والحساب؟ ايلي صار برأيكم ماله حساب عند أبوكم؟
عروبة: أنا عارفة أنه زعلان وواخد موقف مني أني تزوجت.
كفاح: ميكفي أنك تبارك زواجها حتى تشرعن علاقتها وتحامي عن ارتباط مرفوض بكل المقاييس بزواج الضحية من الجلاد.
نضال: سفسطة وحكي فاضي.
كفاح: قدام الحجة الضعيفة يصير الرأي الثاني سفسطة وحكي فاضي، حكي جرايد. بس تعرف شو؟ اذا كنت قدران تحامي وتدافع عن زواج ملعون من ساسه وبنفس الوقت كنت عاجز أنك تدافع وتقول كلمة حق في قضية أبوك معناته كل شيء عملته فحياتك سفسطة وحكي فاضي.
نضال: بدك الحقيقة أنا ما قلت كلمة بقضية أبي. تعرف ليش؟ لأني من جوه مقهور منه. مقهور لأنه ما فكر فينا. ما فكر شو بدو يصير فينا نحنا ولاده.
كفاح: فكر بالبلد.
نضال: وهيك البلد نسياته كله على بعضه.
كفاح: مو صحيح...
الأولاد: لقينا الصورة.
كانت صورة فتوغرافية كبيرة للوالد وقد تكسرت تماما كما تكسرت صورته المعنوية في قلوب أبنائه أو بعضا منهم على الأقل.
ماذا لو اجتمعت العائلات السورية بعد خمس سنوات من الحرب الطاحنة التي تشهدها البلاد، تفرقت فيها الانتماءات واختلفت التقديرات وتوزعت الولاءات؟ كيف سيكون الحوار بين أبناء وآباء وأبناء عمومة وجيران؟ أيمكن للعلاقات الطبيعية أن تعود بين أبناء البيت الواحد والحارة الواحدة والحي الواحد والمدينة والبلد إن بقي هناك من بلد موحد كما كان في البدء؟
لقد صار تدبير الاختلاف، في مجتمع منخور من الداخل، مجالا للصراع تطبعا بالممارسة السياسية للنظام كما كرسها في نفوس أجيال وأجيال توارثت القمع والحدية في الطباع سبيلا وحيدا لإنهاء الأزمات أو وأدها قبل الحدوث. لكن هبة "الحرية"، أو كما أريد لها أن تبدو، منحت الناس فسحة للإعلان عن الرأي المختلف والتمرد على طقوس الاستعباد، وكان الرد السلطوي ما نعيشه حتى اليوم استنزافا للقدرات والأرواح واستمرارا لليل طويل يأبى فجره البزوغ.
في نفس الليل الطويل، يمر ضابط المخابرات سالم، وهو والد فادي زوج عروبة ابنة المعتقل السياسي كريم، من أمام زوجته في اتجاه المطبخ وعلامات عدم الارتياح بادية عليه. تلحق به الزوجة.
الزوجة: ندمان؟
سالم: لا أبدا. إنت بتعرفي لو ترجع هديك الأيام كنت عملت نفس الشيء. هاي شغلة ما فيها مساومة.
الزوجة: لكن ليش قلقان؟
سالم: مبعرف. بس يعني استرجعت صحبتنا وأيامنا الحلوة مع بعضنا. تمنيت أنه لو ما كان راح لهديك الجهة. قديش كان ...
الزوجة: أريح لضميرك؟
سالم: أنا ضميري مرتاح. بس يعني هذا كان صديق العمر. درسنا سوا، دخلنا الجيش سوا، خدمنا سوا، يعني بكل شيء بالسياسة وبالحياة كنا دايما سوا. حتى لما حبيتك كنا سوا. تتذكري؟
الزوجة: ما هو شاهد على زواجنا ومخطط خطوبتنا.
سالم (وهو يبتسم): تتذكري قديش كان صاحب قرارات حاسمة. عم بتحبوا بعض لازم تتزوجوا غصبا ع الكل.
الزوجة: هذا كله بعرفو. بس شو لي جابو على بالك؟
سالم: يمكن طلعته خلتني أحس انه قديش خسارة ايلي صار. ورغم أنه صار لي سنين بشوفو عدو وبيستاهل ايلي صار فيه، مع ذلك لأول مرة بفكر أنه ما كان عندي صديق غيره.
الزوجة: شي راح وما ظل. الأيام بتنسي كل شيء.
سالم: ليش ظل فيه أيام؟
لم يمس التغيير طبائع الناس واصطفافاتهم فقط بل صار التغيير يمس الوضع الجغرافي والتركيبة الديمغرافية استباقا لخرائط جديدة يُخَطط لها بالمنطقة بل يتم تنفيذها على الأرض، فالتخطيط تم منذ سنوات وبمساهمة عربية أصيلة قدمت المنطقة وشعوبها لقمة سائغة للعدو بعيده وقريبه على حد سواء. والعزاء أن هناك رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه رافضين الاندماج في عقلية القطيع تماما كما صورها سعد الله ونوس في مسرحيته "الفيل يا ملك الزمان". لكن الواقع على الأرض يواصل التغير يوما عن يوم ولحظة عن لحظة بخطوات محسوبة ومدفوع إليها دفعا، وفي غفلة من الزمان.
مشهد آخر من فيلم (سُلّم الى دمشق – 2013)...
والد زينة من وراء القضبان: أفنت القضبان عمرها واقفة أمامي. قضبان من حديد مدهونة بالرماد وأنا خلفها مدهون بالدم واللحم، والقلب غراب ينعق.