تسود فكرة خاطئة عن النظام السياسي في بلادنا أنه نظام برلماني. صحيح أن الأمر طرح مباشرة بعد إلغاء دستور 1959 ومفاده أن نظام الرئاسة المطلقة الذي حكم البلاد لستة عقود كان سببا رئيسيا لاستشراء الاستبداد والفساد الذي أنتج ثورة كادت تطيح ببنيان الدولة لولا لطف الله ونضج الشعب..
ولكن حركة التدافع بين النخب السياسية - خاصة بعد أن انكشف التفاوت الفادح في حجم البنى الحزبية - أدت إلى إنتاج نظام هجين لا هو بالرئاسي ولا بالبرلماني، وقد سماه البعض نظاما مجلسيا باعتبار أن المجلس التأسيسي ثم مجلس نواب الشعب هو قطب الرحى في كل العملية السياسية.
لم يقرأ الفاعلون السياسيون ثغرات هذا النظام بسبب قوة الدفع التي أطلقتها الثورة والطبيعة الانتقالية للمرحلة، وكذلك باعتبار المرونة التي كان يوفرها اعتماد الحكم على وثيقة غير مكتملة ولا مفصلة وكذلك اعتماده على حزب واحد يتحكم في غياب منافسة جادة في توزيع السلطات.
هذه الأسباب وغيرها جعلت المجلس التأسيسي يمضي في دسترة هذا النظام السياسي الهجين، مع إضافة معتبرة هي انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر بعد معركة شرسة.
مرت الانتخابات البرلمانية بسرعة ولم تسفر عمليا عن فوز حاسم لأحد الأحزاب، ما جعل الانتخابات الرئاسية التي جرت على دورتين وشغلت البلاد تعطي انطباعا لدى عامة الناس بأن الرئاسة هي رأس النظام السياسي وتتصاعد الانتظارات منها يوما بعد يوم بينما الواقع والدستور هما غير ذلك.
يرفض البعض الخوض في هذه المسألة متحججين بأن الدستور لم تمض على كتابته غير سنة واحدة، فكيف ندعو إلى مراجعته؟ ولكن الحقيقة غير ذلك، فهذا النظام السياسي هو الذي اعتمد خلال السنوات الخمس الماضية، وأنتج كل هذه الأزمات.
تعيش
تونس منذ خمس سنوات برأسين للسلطة التنفيذية، وبرلمان لا تتوفر له أدنى شروط العمل لترجمة الدستور إلى قوانين لا من حيث الإمكانات البشرية ولا المادية.
النظام شبه الرئاسي شبه البرلماني أنتج وضعا أشبه ما يكون بوضع الجمهورية الفرنسية الرابعة، التي شهدت من سنة 1948 إلى سنة 1958، 21 حكومة أي بمعدل حكومة كل ستة أشهر.
من حسن حظ الجمهورية الرابعة أنها جاءت في فترة شهدت قوة دفع اقتصادية عملاقة أنتجها مخطط مرشال وطفرة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فما بالك ببلد ضعيف يعاني أزمة اقتصادية خانقة وحربا ضد عدو عابر للحدود وارتفاع غير مسبوق في معدلات البطالة.
رغم ذلك لم تتحمل الجمهورية الرابعة عدم الاستقرار السياسي، فالتجأ الجميع إلى الجنرال شارل ديغول الذي وضع كشرط لرجوعه أن يتحصّل على كامل السلطات طيلة 6 أشهر وأعطوه ذلك، لينتهي إلى إصدار دستور الجمهورية الخامسة الذي وسع في صلاحيات رئيس الجمهورية وجعلها أكثر الجمهوريات الخمس استقرارا وامتدادا باعتمادها على صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الجمهورية وصلاحيات رقابية كبيرة لغرفتي البرلمان.
وضعية الشبه شبه تعدت من النظام السياسي إلى مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية.
بطء قاتل في ترجمة الدستور على هناته إلى قوانين بما ينزع عنه أي فاعلية، ناهيك عن أن ركنين أساسيين في الدستور لم يريا النور بعد سنة كاملة وهما المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية إضافة إلى الشغور الذي تعاني منه كل الهيئات الدستورية تقريبا وغياب بعضها تماما.
لأنّه في وضعيّات استثنائيّة يجب الحسم وبسرعة فلهذا وجب في انتظار تحوير في الدستور يحسم في اتجاه نظام متناسق، لا بد أن يفوض البرلمان سلطات إصدار القوانين ذات الصبغة الاقتصادية والتفرغ لاستكمال القوانين السياسية والدستورية.
ديجول أخذ سلطات مطلقة طيلة 6 أشهر في 1958، لأنّه فهم أنّه في وضعيّة فرنسا الاستثنائيّة في 1958 إن مرّ بمجلس النواب كلّ مرّة فلن يستطيع شيئا! وقد كان محقا في ذلك.
ونحن كم من حكومة منذ 2011؟ هذه هي الحكومة الثامنة.
في 2012 ضاعت 7 أشهر في النقاش فقط حول تحوير وزاري وفي النهاية لم يحصل، وفي 2015 أعلن السيد الحبيب الصيد أنّه سيقوم بتحوير منذ سبتمبر وقام به في حزيران/ يناير يعني طيلة 4 أشهر مشاورات. بهذا الموديل لن تستطيع أي حكومة العمل ناهيك عن الإنجاز والإصلاح.
في انتظار الإصلاح الدستوري الشامل هناك إجراءات ضرورية:
الأول يخص تحسين ظروف عمل المجلس بأن يكون لكلّ نائب معاون يحضر مكانه ويقوم له بتلخيص ويعطيه مثلا تفويضا للتصويت على القوانين. إن غاب النّائب فلنقم بهذا الإصلاح. ففي فرنسا وفي كل الديموقراطيات برلمانية كانت أو رئاسية هناك معاونون أو مستشارون مختصون للنوّاب ويدفع مجلس النوّاب رواتبهم.
الثاني يخص الأموال المنهوبة التي من شأنها إن عادت أو جزء منها تخفيف الأعباء على مالية الدولة، وقد يكون مناسبا أن تجري مفاوضات مباشرة مع المعنيين في مقرّات السفارات التونسيّة وهي مراكز سيادة؛ هذا أحسن من أن تذهب الأموال في التقاضي والمحامين الأجانب. وفي هذا لا بد من التعلم من درس التاريخ في قضايا محمود بن عيّاد ونسيم سمامة.. الخ، المسؤولون عن سرقات بين 1850 و1870 وقد دامت متابعتهم من الدولة إلى غاية 1930 ولم تسترجع تونس فرنكا واحدا.
مرّت اليوم 5 سنوات ولم تُرجع أوروبا ملّيما واحدا؛ لأنّ أوروبا تشترط أحكاما نهائيّة ومحاكمات تخضع لأعلى معايير العدل، وهذا مفقود الآن في تونس فلن تُرجع أوروبا مليما واحدا.
الإجراء الثالث هو وضع قانون لتمويل الأحزاب يخرجنا من حالة الهشاشة الحزبية التي تؤثر سلبا على الدولة وسير مؤسساتها.
إن لم تعط الدولة تمويلا للأحزاب فكيف ستعيش؟ لماذا المكابرة إذن؟ نضع قانونا ينظم تمويل الأحزاب ونضع شروطا كما في أوروبا؛ التمويل حسب عدد نوّابهم.. الخ.
هذه إجراءات علاجية عاجلة قبل العلاج الأساسي: إصلاح دستوري شامل على الطبقة السياسية أن تأخذها مأخذ الجد فتنجو وننجو جميعاـ وإلا فلندع الله أن يعيننا على تحمل الجراحات المؤلمة.