علم ذلك الأسير المسلم أن أعداءه قد أجمعوا على قتله، فأراد أن يَلقَى الله ببدن نظيف يتناسب مع ذلك القلب النقي، ومن محبسه طالب القوم بموسي يستحد به، فناولته سيدة المنزل إياه وهو مُقيّدٌ، لكن عينيها وقعتا على مشهد انخلع له قلبها.
فصبيها الصغير دنا من الأسير، فأجلسه الأخير على فخذه، والموسى بيده، لقد حانت الفرصة إذن للأسير لأن يُحرق قلوبهم قبل أن يجهزوا عليه، غير أن الأسير قد عاجلها بقوله: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك.
كان الأسير الذي اقتيد للقتل بعد أن صلى لله ركعتين خففهما حتى لا يظن أعداؤه به جزعا هو خبيب بن عدي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بُعث ليتمم صالح
الأخلاق، فلا عجب أن يصدر منه هذا الفعل وقد تربى في مدرسة الأخلاق المحمدية.
*إنها صورة مشرقة لما كان عليه الصدر الأول من مكارم الأخلاق، التي صارت لا تحتل مكانتها الأولى في عصر سادت فيه لغة المادة وطوفان القيم الرديئة.
النظام الأخلاقي في الإسلام مُتفرد؛ لأنه رباني المصدر، فقد رعى الإسلام وحفظ وأكد على كل الخصال التي دعت إليها الفطرة السليمة، وقرّر خصالا أخرى من خلال التشريعات، واعتبر الأخلاق جزءا أساسا في
النظام الإسلامي العام، لا ينفك عن جوانب الاعتقاد والعبادة.
وفي الوقت الذي تهيمن نسبية القيم والأخلاق على الحياة الغربية، وترى مثلا قيمة العدل تُراعى في مواطن معينة ويتم تجاهلها في أخرى، وتفرِض سياسة الكيل بمكيالين نفسها في صيغة التعامل مع الأفراد والشعوب بحسب الجنس والدين والعرق، تأخذ في ظل الإسلام بعدا ثابتا لا يتغير، فيأمر بالعدل حتى مع الأعداء والخصوم، ويتبرأ من الممارسات الخاطئة في تطبيق تلك القيمة.
وصدق شوقي إذ يقول:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيَت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالأخلاق ليست من الكماليات، إنما هي من صلب هذا الدين، وأحد المكونات الأساسية للخطاب القرآني، وهي كذلك أساس في أي مشروع نهضوي، ولن تشهد هذه الأمة بعثا جديدا ونهضة حقيقية إلا إذا استصحبت في مسارها ذلك النظام الأخلاقي وتفاعلت معه.
فبين قيام وسقوط الدول والحضارات عوامل أبرزها الجانب الأخلاقي، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة".
كان الجانب الأخلاق من أهم ما يميز الحضارة الإسلامية، وأبرز خصائصها كما يقول مصطفى السباعي رحمه الله وهو يعدد خصائص تلك الحضارة: "ثالث خصائص حضارتنا أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط، ولم تجعلها وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة، أو أفراد .. في الحكم، وفي العلم وفي التشريع، وفي الحرب، وفي السلم، وفي الاقتصاد، وفي الأسرة، روعيت المبادئ الأخلاقية تشريعا وتطبيقا، وبلغت في ذلك شأنا ساميا بعيدا لم تبلغه حضارة في القديم والحديث".
*المتأمل في واقع الأمة يجد أنها تخلت إلى درجة كبيرة عن هذا المكون الحضاري الهام، وسادت في أوساطها قيمٌ أخرى بديلة، سواء كانت مستوردة وفدت إلينا على جناح التغريب، أو قيما أصيلة أصابها التشوه والاهتراء، فتشبعنا بها دون وعي.
لقد أخرجت المحن الأخيرة -خاصة مع تيار الثورات المضادة للربيع العربي- أسوأ ما فينا، ولئن كنا نحمد الله على سقوط الأقنعة وظهور أمراض كانت تنخر في أساس الأمة دون نشعر، إلا أن حجم الفساد والقيم الرديئة كان أكبر من المتوقع بكثير.
*أبرز الأسباب التي أدت إلى ضعف البنيان الأخلاقي لدى المسلمين، كان الفصل بين الأخلاق وبين المكون الأول لهذا الدين، وهو الجانب الاعتقادي.
فعندما انفصلت الأخلاق والقيم في حس المسلمين عن
العقيدة، وصار الكثيرون يتعاملون معها باعتبارها من الجوانب التكميلية، وأن التركيز ينبغي أن يُسلط على العقيدة باعتبارها طريق النجاة، صنع هذا الفصام النكد نوعا من التهميش للأخلاق والقيم.
ولو نظر هؤلاء إلى نصوص الوحيين بشيء من التأمل، لشاهدوا الارتباط بين العقيدة والأخلاق، كان هذا الارتباط واضحا في رسالة الإسلام التي صاغها الصحابي الجليل ربعي بن عامر في كلمات وجيزة أمام قائد الفرس، عندما قال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، فتضمنت الرسالة جانب الاعتقاد وجانب القيم المتمثل في العدل وإزالة الجور.
*ولما وقف جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي يعدد له أهم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، جمع بين الجانب العقدي والأخلاقي، فقال: "دعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار".
وفي الوقت ذاته، اعتبرها الشارع جزءا من الإيمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان).
*القرآن ذاته أظهر هذا الارتباط بين العقيدة والأخلاق: {أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدعُّ اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين}K فجمع بين أمر الاعتقاد وأمر القيم والأخلاق.
لذا اشتملت دعوة الرسل -التي هي دعوة الإسلام- على دعوة الناس إلى الإيمان وإلى تصحيح السلوكيات في الوقت ذاته، فنبي الله لوط يدعو قومه إلى التوحيد وإلى التنزّه عن الفاحشة (إتيان الرجال)، ونبي الله شعيب يدعو قومه إلى التوحيد وإلى الأمانة والقسط في الميزان.
العقيدة السليمة تُنتج أخلاقا سليمة؛ لأن الإطار الأخلاقي في الإسلام يرتبط بمبدأ الثواب والعقاب الأخروي، فكلما زادت قوة الاعتقاد والارتباط بالآخرة، كلما دفعت المسلم إلى فضائل الأخلاق والقيم، فهو ينظر إليها باعتبارها تشريعا ربانيا.
ولذا تغير مَنْ دخل في الإسلام عن سابق عهده، بعد أن خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فتحول الصلد الجبار إلى صاحب قلب رحيم، وتحول ضعيف النفس إلى قوي شجاع.
ولئن كان الانفصال بين العقيدة والأخلاق في حس كثير من المسلمين أبرز أسباب التشوه الأخلاقي، فإن التنبيه على التربية العقدية السليمة لا نعني به العلم النظري الذي يعتمد على سرد المعلومات من كتب التراث، فتعليم العقيدة ينبغي أن يرتبط بواقع الناس وسلوكياتهم، وأن تكون التربية عليها متعلقة بتطبيقاتها وإظهار آثارها في سلوك المسلم، وهو ما يعرف بحيوية العقيدة.