في مثل هذه الأيام منذ ما يقرب من أربعين عاما قامت مظاهرات عارمة في مصر؛ واهتزت "الدولة" بعنف؛ وقد عمت المظاهرات معظم محافظات مصر؛ يبدو أن مصر على موعد مع الانتفاضات في يناير؛ وأيضا مع شهداء البحث عن الحرية المفقودة؛ فقد سقط 160 شهيدا و800 جريح واعتقل ما يقرب من 1250 معتقلا.
كانت الانتفاضة نتيجة تراكم كبير وضغط عال على المجتمع المصري الذي عانى لسنوات طوال بعد كارثة 67 من الفقر والجوع باسم حرب التحرير المقدسة التي لم تأت بعد؛ عشر سنوات منذ الكارثة والفقر يزداد ولا أمل في الأفق بعد الوعود التي تنهمر كالسيل عن الرخاء القادم بعد "الانتصار".
كان هناك رخاء حقا ولكن لتلك الطغمة التي بدأت تنخر كالسوس في جسد مصر في العلن؛ رجال الانفتاح الاقتصادي الذين قننوا الفساد ونهب مصر بعد أن كان فسادا مستترا مرتديا عباءة النضال والشرف.
إن تلك الأحداث الهامة هي إحدى الهبات القوية للمصريين وغالبا ما تكون فورة عارمة ثم تهدأ قبل أن تحقق آمالها؛ كانت القرارات الاقتصادية برفع الدعم عن بعض السلع الأساسية هي الشرارة التي أشعلت الغضب المتراكم داخل مصر؛ ولا يمكن إنكار دور القوى العمالية وخاصة عمال النسيج في تأجيج الغضب العارم.
بين يناير 1977 ويناير 2011 أربعة وثلاثون عاما، وأغلب من كانوا في 2011 ربما لم يولدوا قبل 77 وبالعودة قليلا إلى الخلف نجد حالة الثورة المتصاعدة في مصر في أواخر أربعينيات القرن السابق بفاصل زمني يقرب من ثلاثين عاما؛ ثم ثلاثون عاما أخرى للوراء لنجد ثورة 1919 أو سمها انتفاضة إن شئت؛ فلم تصل مصر في أي من أحداثها الكبرى إلى مرحلة الثورة في اعتقادي.
علي أية حال يبدو أن كل جيل في مصر له حالة ثورية أو كان يريدها كذلك؛ وكانت احداث يناير 77 واحدة من تلك المشاهد الثورية التي استطاعت فيها القوي الشعبية وعلى رأسها العمال إجبار الدولة على التراجع عن الاستمرار في تحميل كل جرائمها على الفقراء؛ وأجبرت السلطة على التراجع عن قرارها برفع الدعم.
وبعد ثلاثين عاما في أحداث يناير 2011 لم نجد العمال بهذا الزخم العالي وكأن عمال 2011 غير عمال 77 ؛ وهذه حقيقة مؤسفة أن تكون القوي الأكبر في المجتمع والقادرة على إحداث تغيير قوي وسريع وحاسم خارج معادلة الثورة، فالدولة فككت كل المفاصل العمالية القوية التي بنتها الحركة العمالية المصرية منذ بداياتها في نهاية القرن التاسع عشر، فقد أممت النقابات وحولت اليسار المصري المتبني للحركة العمالية إلى مسخ للسلطة؛ وفصلت القوي الإسلامية عن العمال بحجة الصراع مع الشيوعية؛ بل وفككت المنظومة الصناعية نفسها كي تكسر القوة العمالية الهائلة التي كادت أن تكسرها في 77 ؛ هذا غير الإفقار المتعمد لكل الشعب المصري ومنهم وربما أكثرهم العمال.
حوَّل المجرمون دماء العمال وأعمارهم إلى ثروات هائلة ولم يجد العمال بعد التفتيت الكامل لقوتهم ما يبنون عليه 77 أخري.
يناير 77 كانت تراكم غضب جيل كامل قاده العمال ويناير 2011 تراكم غضب الجيل التالي قاده الشباب؛ ونحن بانتظار اللحظة التي تلتحم فيها القوتان الشباب والعمال لنرى يناير 2011 بروح يناير 77. في انتظار يناير الثالثة في أي يوم كان وأي شهر كان.
إن الأمم تتنفس كرامتها وعزتها من لحظاتها التاريخية التي استطاعت فيها ولو مرحليا مقاومة طغيان السلطة والاحتلال ويناير بشقيه القديم والحديث، تمثل لحظات تحطيم كرامة الاستبداد والقهر الذي تمارسه الدولة المصرية المجرمة بحق شعبها.
إننا ننتظر أيام يناير ليس فقط لنثبت لتلك الطغمة الحاكمة أننا ما زلنا نحيا على أمل الحرية؛ ولكننا ننتظرها ونستدعيها في ذاكرة الثوار لتبقى روحها حية جيلا وراء جيل ونعلن أننا لن نستسلم بأي صورة من الصور وسنبقى هكذا نناضل بكل ما نمتلك من أدوات؛ فإذا نجحنا فسنبني بلادنا وأحلامنا المؤجلة؛ وإذا لم يقدر لنا النجاح في كسر كل قواعد الاستبداد فسنحيا أو سنموت رافعين رايات النصر القادم ولن تنكس راية يناير حتى يأتي من يحملها وينتصر لها. ستبقى أيام يناير وسنبقى معها أو ننتهي ولكننا سنبقي على تلك الروح المقاومة التي ملأت ربوع الأمة ولن تموت.