نحن على دراية تامة بأوضاع المنطقة وتفاصيلها.
بهذه الكلمات دخلت
روسيا فعليا إلى مستنقع الصراع في منطقة الشرق، بعد ترقب طويل لحالة الأسد، ووضع المعارضة، وحالة المد والجزر التي لا تنتهي. مع تواصل الإمدادات البشرية التي تمدها
إيران للنظام السوري كما خزينتها المالية التي ذهب معظمها لإنهاء الصراع لصالح الأسد والإبقاء على موطئ قدم لها في هذه المنطقة التي تعتبر امتدادا لحليفها التي تظن أنه الأقوى "حزب الله".
وللدخول في شكل وتفاصيل التدخل الروسي في المنطقة، لا بد من مراجعة نقطتين أساسيتين في كيفية تدخل الأطراف الفاعلة والمؤثرة في سوريا.
- الموقف الإيراني وسياسته في المنطقة:
على عكس جميع دول العالم، وخلافا لكل مستعمر، تختلف إيران في تشكيل حلفائها في المنطقة، وهو ما يشكل علامة مميزة لهذا النظام الخبيث، فهي لا تعتمد أبدا على حكومات وإنما على ميليشيات تابعة لها في كل بلد تقوم باختراقه بطريق المفسدين السياسيين الذين تقوم إيران بصناعتهم وتهيئتهم في "قم"، فهي لا تصنع سياسيين وإنما أدوات تحركها إيران كيفما تشاء.
فكما حدث في لبنان بادئ ذي بدء، وصولا للعراق، وبالرغم من وجود حكومة تابعة لها، إلا أنها قامت بتشكيل ميليشيات موالية لها تتحكم بالقرار وبأدق تفاصيل الحكم في العراق تحت مسمى الحشد الشعبي، وتغيير هذا الاسم بحسب الحالة العامة للبلاد، وصولا لليمن من خلال ميليشيات الحوثي. أرادت إيران رسم الصورة ذاتها في سوريا، مع استحالة هذا الرسم لكون 90 بالمئة من سكان هذا البلد هم من السكان السنة، و10 بالمئة هم من طوائف مختلفة ليست بينهم الشيعة بطبيعة الحال إلا من تشيع في فترة الأسد الابن وأبيه من خلال دخول مبشرين إيرانيين إلى مناطق الفقر في سوريا نذكر منهم درعا في الجنوب، والرقة في الشمال، وشكل هؤلاء وقودا للميليشيات الموالية للنظام ضد طموح الشعب السوري لنيل حريته.
- الموقف الروسي وسياسته في المنطقة:
بدأت روسيا فعليا التدخل في الصراع السوري على إثر حادثة إسقاط الطائرة الروسية في سيناء والتي كانت تقل أكثر من 220 سائحا كلهم من الروس، لتأمين دخولها بحرية تامة عبر قناة السويس دون اعتراض من الحكومة المصرية التي من الممكن أن تلبي إملاءات الغرب بمنع هذه السفن من الدخول، بدلالة أن روسيا لم تعر الأمر الكثير من الأهمية الإعلامية، بل كادت أن تغطي على الخبر، وإن كانت تخرج بين الفينة والأخرى عن تصريحات لها بوجود مجرم محتمل في هذه القضية، وأظن أن روسيا سوف تمضي قدما بحلب الشاة إلى ما لا نهاية، خصوصا بعد الارتباك المصري، وانهيار اقتصاده المفاجئ، وليتها تنتهي عند هذا الحد، بينما لم يكن الرد الروسي مشابها على حادثة إسقاط الأتراك لمقاتلة روسية على حدودها مع أن تركيا سبق لها وحذرت روسيا من التمادي في اختراق سمائها.
وحتى هذا الأمر تم استنزافه لأبعد حد، كما أريد له، وهو كف اليد التركية عن التدخل في سوريا وإحداث خلاف من شأنه أن يمنع الطائرات التركية من التحليق في سماء سوريا، وتأكيده على هذا الأمر بنشر روسيا لمنظومة صواريخ إس 400.
شكل استدعاء
بوتين للأسد نهاية فترة حيرته في عنونة مراسم الولاء التي من الواجب تقديمها بعد أن كانت تتأرجح كفتها للولي الفقيه، بينما شكل هذا الاستدعاء بالنسبة لروسيا الصورة الأخيرة لشكل الدخول الروسي الذي من المرجح في أن روسيا لم تقبل بتوسع إيران في هذه المنطقة، واعتبار سوريا جزءا لا يتجزأ من الإمبراطورية الروسية القادمة، الأمر الذي لم يعجب إيران التي بدأت فعليا بسحب بعض من فصائلها المقاتلة احتجاجا على السياسة الجديدة لبوتين الذي أراد فعليا أن يمسك بالقرار القادم بكيفية إنهاء الصراع ومن سيخلف الأسد، وفي فرض شكل المعارضة المحاورة للنظام، مع عدم تمسكه بالأسد، وهو أهم الخيوط الإيرانية، بل يشكل عصب المصالح الإيرانية برمتها، فرحيل الأسد يشكل خسارة كبيرة لإيران ومدفوعاتها التي سبقت في سبيل الحفاظ عليه.
لا شك أن هناك خلافا روسيا إيرانيا في المنطقة، وفي شكل
التحالف، الذي أرادته إيران حلفا منفذا لرغباتها بينما أرادته موسكو حلفا تابعا لإرادتها في المنطقة، حالها حال النظام المزمع إقامته في سوريا وقناعتها بأن نظام الأسد لا يمكن أن يستمر بعد كل هذه الدماء، ورغبة روسيا بوجود دولة حقيقية قوية لا ميليشيات عابثة كما أرادتها إيران أن تكون، ولا شك في أن فهمها الذي توصلت له من خلال الاحتلال الإيراني للعراق، وتغيير بنيته الديمغرافية، وتهجير أهل السنة من مناطقهم، وهو السيناريو ذاته الذي تود إيران ممارسته في سوريا من خلال تهجير الملايين من السوريين، وربما استبدالهم بأفغان وباكستانيين وإيرانيين وعراقيين وغيرهم، وهو الأمر الذي تعول عليه إيران كثيرا لزرع بذور الشر في العالم العربي، خصوصا بعد سقايتها لهذه البذور في كل منطقة تواجد بها منتسب للمذهب الشيعي مع عجزها، أقول عجزها، عن استقطاب الجميع، لكنه الإعلام الذي يسلط الضوء فقط على الموالين للأطماع الصفوية.
ولابد لنا من التسليم بقوة شخصية بوتين، وهو الرجل الذي خدم في أقوى الاستخبارات العالمية، الأمر الذي يطرح فعليا الكثير من التساؤلات عن كيفية تسلسل هذه الأحداث في منطقة الشرق الأوسط عموما، وسوريا بشكل خاص، وعلى عكس الوضع
اليمني الذي لم يلتفت إليه، وهو ما يعطينا إشارات واضحة إلى المنطقة التي ترغب روسيا بالسيطرة عليها. لم تكن روسيا تحاور الأمم المتحدة ولا قراراتها أو رغباتها، بل مضت إلى تنفيذ أجندتها في هذه المنطقة، فمن استهداف لزهران علوش، زعيم جيش الإسلام، والذي صنفته روسيا إضافة للنصرة على أنه أحد التنظيمات الإرهابية التي لا يمكن التفاوض معها، لترسم صورة المحاور القادم مع النظام السوري ومن سيحضر ومن سينسحب ولو بفعل فاعل، بينما تفاوضت مع "داعش" للخروج من دمشق بكامل عتاده مقابل إفراغ مناطق نفوذه لصالح النظام السوري، وهو ما سيحصل بالتأكيد لنقله إلى حلب بعد انسحاب القوات الإيرانية منها، وليكون البديل لهذه القوات بعد أن عجز الإيرانيون عن التقدم في تلك المناطق وهو سيناريو يعيد للأذهان الطائرة الروسية المدنية وركابها المائتين والعشرين الذين سقطوا بفعل فاعل بالتأكيد! وبالتأكيد "داعش" ليس الفاعل؟!
لا شك في كل ما تقدم أننا نصل إلى الطموح الروسي في المنطقة وشكل التحالف المزمع بناؤه، في الوقت الذي لن تسمح روسيا بقيام إمبراطورية على حدودها القريبة متمثلة بإيران وأطماعها، لكنها لا تريد خسارة هذا الحليف بشكل أو بآخر، وستقوم روسيا بدعم الملف الإيراني عن طريق وعود آجلة وصورايخ كانت إيران تطمع في حيازتها وبناء قدرتها العسكرية بما يتناسب طردا مع شكل القوة التي يجب أن تكون عليها إيران.
كما أنها فتحت مزادا واسعا للاطلاع على قدرتها العسكرية، وازدياد على الطلب للحصول على هذه القدرات، نذكر منها طلب المملكة الحصول على منظومة "إسكندر" التي تعتبر فخر الصناعة الروسية، إلى التغير المفاجئ في التحالفات العالمية والعربية من فرنسا التي بادر رئيسها للتحالف مع بوتين ضد الإرهاب بعدما لمس فتورا في القوة المرتجاة في سياسة أمريكا، وربما مل هو الآخر من لعب دور الوصيف الثاني لأمريكا، وأراد أن يصبح الوصيف الأول لروسيا في أنه السباق لهذا الحلف، إلى دول الخليج ونذكر منها قطر التي أصر وزير خارجيتها على مخاطبة الروس بـ"أصدقائنا الروس" والتشديد على كلمة "أصدقاء"، وتراجع كبير في دور الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني ضعفا واضحا من خلال ملصقات مطالبة المرشح ترامب، والذي هاجم المسلمين وداعب الروس في قولهم "أعد أمريكا قوية كما كانت"، في صورة مجحفة بحق أمريكا وتاريخها والدور الكبير الذي لعبته طوال الفترة الماضية، حيث اقتنع الشارع الأمريكي بدور الوصيف بدلا من وضعهم على الرف الأبدي القادم لا محالة وإن طال الزمن.
وصولا للمنافذ المتعددة من السويس إلى المتوسط، ونفوذ متفرد في هذه المنطقة والتي ربما ترغب روسيا استبدال منتجعاتها في تركيا بطرطوس واللاذقية في سوريا، وإدارة النشاط الاقتصادي في هذه المنطقة والذي أثبت قوته طيلة الحقبة السابقة والتي وضعت سوريا في مصاف الدول العربية القوية في هذا الاقتصاد، وصولا للغاز الموجود في المتوسط والذي من شأن استخراجه على أيد غير موالية للحكومة الروسية إنهاء الاقتصاد الروسي وتحكمه بالغاز الواصل لأوربا عن طريق الإمداد بتكلفة أقل، مما يضع روسيا في موقف حرج ويساهم في عزلتها.