أعلنت
القوات المسلحة المصرية في بيان صادر عنها الثلاثاء الماضي 22 أيلول/ سبتمبر انتهاء المرحلة الأولى من عملية حق الشهيد لمكافحة العناصر الإرهابية التي استمرت 16 يوما، وذكر البيان أن القوات قضت خلالها على شبكة واسعة من
المخازن للمتفجرات والمخابئ والسيارات والتخلص من كميات كبيرة من المواد الناسفة وتدمير الأنفاق التي تستخدمها العناصر الإرهابية...
حتى الآن ليس ثمة ما يشير إلى أن السلطات المصرية تسير نحو النهج الصحيح لمعالجة ما يحدث في
سيناء.. إذ ليس هناك حديث إلا حديث الأمن.. والأمن فقط.. خطط التنمية الكبرى الزراعية والتجارية ذات الأبعاد الإستراتيجية الكبرى.. لا زالت حلما بعيدا وبعيدا جدا.
وإذا تحدثت عن فتح قنوات التواصل بين سيناء وبقية المحافظات وشق الطرق ومد خطوط سكك حديدية، وتشجيع الاستثمار وإعلان سيناء منطقة واعدة تجاريا وسياحيا.. كل ذلك يعد من قبل الوهم الكبير.. لك أن تعلم أن سيناء لديها أطول ساحل في البلاد بالنسبة إلى مساحتها، وهي أقل صحارينا عزلة وفي جيولوجيتها الإقليمية تكاد تختزل جيولوجية مصر كلها تقريبا وبالرغم من أنها منطقة صحراوية أو شبه صحراوية على أفضل الأحوال.. لكنها أغزر مطرا من الصحراوين
الشرقية والغربية.
سيناء مسألة متجاوزة للبعد الأمني المجرد إلى المدى الإستراتيجي كله (الحضاري والإنساني والأخلاقي) وفي القلب منه منظومة (الأمن القومي) كل الغزوات التي تعرضت لها مصر عبر التاريخ كانت من البوابة الشرقية.
العلامة الإستراتيجي جمال حمدان له دراسة شاملة عن سيناء يصف فيها كيف كانت على مر التاريخ موقعا للمعارك الضارية مع الغزاة ويقول: حين كان ماء النيل هو الذي يروي الوادي كان الدم المصري يروي رمال سيناء ولن تجد ذلك غريبا إذا أدركت أهمية الموقع الإستراتيجي لسيناء بالنسبة لباقي مصر تطور الحروب على مدار التاريخ ساهم في تحويل سيناء إلى (أرض معركة) بعد أن كانت (طريق معركة) ومن (جسر حربي) إلى (ميدان حربي) وبالتالي من (عازل) إستراتيجي إلى (موصل) جيد للخطر.
وبعبارات محددة يلخص حمدان دور سيناء في نظرية الأمن القومي المصري في أن من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول (من يسيطر على فلسطين الآن؟!) ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم في سيناء ومن يسيطر على سيناء يتحكم في خط دفاع مصر الأخير.
عاشت سيناء عزلة سياسية واجتماعية وتنموية طوال السنين الماضية وبخاصة بعد اتفاقية (كامب ديفيد)، والتي ينص ملحقها الأمني على محدودية الوجود العسكري المصري في سيناء ..فمعروف أن الاتفاقية قسمت شبه جزيرة سيناء إلى ثلاث مناطق عسكرية (أ) و(ب) و(ج) وتعد المنطقة (ج) الأخطر بوصفها تمثل الشريط الحدودي مع (المنطقة العازلة) التي تحاذي قطاع غزة بطول 14 كم وبعمق 500م حتى الآن... وهي قابلة للزيادة وبالمقابل يعد الشريط الحدودي بين إسرائيل ومصر والذي يبلغ طوله 184 كيلومتر .. آمنا !!؟؟.
لن أكف عن القول بأن الفراغ العمراني في سيناء (التى تمثل مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة الدلتا ويعيش فيها نحو مليون مصري) له دور مهم في جعلها مسرحا للإرهاب اليومي .. الرد العملي على كل ذلك يكمن في كلمة واحدة هي (العمران) ... الأمانة تقتضي أن نذكر أن كبار رجالات العسكرية المصرية أمثال الفريق يوسف عفيفي واللواء منير شاش واللواء عادل مسعود واللواء محمد نبيل فؤاد جميعهم أكدوا -كل من موقعه- الضرورة القومية والإستراتيجية لتنمية وتعمير سيناء وإقامة مجتمعات عمرانية كاملة ونموذجية بها..
لم يعد الاهتمام بسيناء بابا من أبواب الرفاهية بل ضرورة مبنية على حقيقة أكدها ذات يوم العلامة جمال حمدان حين طالب بامتزاج التعمير البشري والعمراني في سيناء بمشاريع الدفاع من أجل ملء الفراغ وكخطوة أساسية نحو تمصيرها تمصيرا تاما وإلى الأبد.
أين مشروع إنشاء ألف قرية في ممرات سيناء الأربعة الذي طرحه المهندس حسب الله الكفراوى ذات يوم؟ ..ولماذا اكتفى هنا بالقول وذهب إلى الساحل الشمالي بالفعل ؟
كم منا يعرف تاريخ سيناء أو جغرافيتها أو ثرواتها أو تقاليد أهلها وتراثهم وثقافتهم أو أسماء قبائلها؟ وكم منا يعرف أن سيناء ليست فقط فلكلورا وأعشابا طبية وملابس مطرزة ومخدرات؟..كم منا يعرف أن سيناء اليوم بحاجة ماسة إلى من يسعى إلى حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تعاني منها؟ وكم منا يعرف أن مصر كلها بحاجة إلى استثمار الموارد المتعددة المطمورة والمتواجدة في هذه البقعة الغالية؟ وبحاجة أكبر إلى تعميق الهوية العربية والانتماء الوطني ودمج سكان سيناء ضمن نسيج الأمة من خلال برنامج بعيد النظر يستجيب إلى حاجاتهم ويحقق مشاركتهم الفاعلة؟ وكم منا يعرف أن أهل سيناء رفضوا عرض الصهاينة عليهم بالانفصال عن مصر؟.
لقد بات فرض عين على كل صاحب قرار في مصر أن يكشف مكامن القصور والخلل في معالجة أزمات سيناء المتلاحقة (وبعيدا عن الحل الأمني فقط ) ويساهم في صياغة رؤية تساعد على تعزيز مشاركة أهل سيناء في إدارة شؤونهم المحلية وتحملهم أعباء الدفاع عن الوطن.. لماذا لا نسمع وسط هذا الصخب العنيف إلا صوت (جماعات التطرف) المسلحة وقوات الأمن.. أين صوت أهل سيناء ؟ هل هم على الحياد فيما يجري؟ إذا كان ذلك صحيحا.. فتلك كارثة قومية وأمنية من الطراز المرعب..
إستراتيجية تعزيز انصهار أهل سيناء في كيان الأمة المصرية العظيمة (مهمة قومية عليا)..