تضطلع
نصوص الشريعة الإسلامية الأصلية، بدور أساسي ومركزي في تشكيل
وعي المسلمين وفكرهم، فهي المؤسِّسة للمفاهيم الشرعية، والمشّكِّلة لرؤى المسلمين وأفكارهم، فللنص الشرعي سلطة نافذة لا يملك المسلم حيالها إلا التسليم والخضوع، والجاهزية التامة للتنفيذ والعمل.
لكن ثمة مساحة تتسع للقراءات التأويلية المتنوعة لفهم دلالات النصوص قطعية الثبوت (القرآن الكريم والحديث المتواتر)، مع اتساع مساحة النظر والاختلاف بشأن الأحاديث النبوية تصحيحا وتضعيفا، واختلاف أنظار الفقهاء في فهمها وتأويلها كذلك بحسب مقررات علمي أصول الفقه والحديث النبوي.
ومن اللافت في تاريخ العلوم الشرعية، وعبر الممارسة الإسلامية التاريخية، ظهور روايات ومقولات وحكايات نسبت إلى الحديث النبوي، وبات المسلمون يتداولونها بينهم باعتبارها أحاديث نبوية، ما حمل علماء الحديث النبوي على نقد تلك الروايات والحكم عليها صحة وضعفا.
يلفت دارسو الحديث النبوي إلى أن المحدثين وعلماء الحديث مع اتفاقهم على تضعيف طائفة من تلك الروايات المنسوبة للحديث النبوي، وبالتالي سقوطها من دائرة الحديث المحتج به، إلا إن الاختلاف وقع بين فقهاء الإسلام وعلمائه حول صحة معنى بعض تلك الروايات الضعيفة والموضوعة.
مقولة "كما تكونوا يولى عليكم" وفقا للدكتور أسامة نمر، أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية، هي من المقولات التي لا تصح نسبتها للنبي عليه الصلاة والسلام، وهي ضعيفة جدا، فقد ضعفها غير واحد من أهل العلم المتقدمين، منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني.
ومع اتفاق علماء الحديث على تضعيف تلك الرواية، وعدم صحة نسبتها للنبي عليه الصلاة والسلام، إلا إنهم اختلفوا في صحة معناها، فبحسب الفقيه السعودي المعروف الشيخ صالح الفوزان فإن معناها صحيح، فالولاة إما أن يكونوا نعمة من الله أو نقمة.
يتابع الشيخ الفوزان شرحه – عبر فتاوى مسجلة – قائلا: "فإذا عصى الناس ربهم وخالفوا أوامره سلط الله عليهم الأئمة والولاة، وإذا اتقوا ربهم وتجنبوا معاصيه فإن الله ييسر لهم الولاة الطيبيين الذين يرفقون بهم ويحسنون إليهم".
وفي ذات الاتجاه يرى الداعية السلفي المصري، محمد سعيد رسلان، أن "ظلم العمال ظلمة الأعمال" و"ظلم المسؤولين متسبب عن ظلمة أعمال الرعية وذنوبها، أعمالكم عمالكم، وكما تكونوا يولى عليكم".
ولتأكيد المعنى نقل رسلان ما رواه الطبراني عن الحسن البصري أنه سمع رجلا يدعو على الحجاج، فقال له الحسن: "لا تفعل إنكم من أنفسكم أوتيتم، إنما نخاف إن عُزل الحجاج أو مات أن يتولى عليكم القردة والخنازير".
مقولة تحمل معاني فاسدة
بعد تأكيده على عدم صحة تلك المقولة كحديث نبوي، رأى الدكتور أسامة نمر أن معناها يكون صحيحا في حالة واحدة، حينما يُسند الأمر إلى الشعب كي يختار من يحكمه، فإن كان هو صاحب القرار في ذلك، ومارس ذلك الحق بحريته الكاملة، فإن الحاكم حينذاك يكون إفرازا طبيعيا لمجتمعه الذي اختاره وانتخبه بإرادته وحريته.
وأضاف نمر لـ "
عربي 21": "أما في الحالة التي يُفرض فيها الحاكم على الناس، فكيف يصح القول بأنه إفراز طبيعي لمجتمعه وهو مفروض عليهم بالغلبة والقوة؟"، مستبعدا تفسير ذلك باعتباره تسليطا من الله عليهم، لأننا وجدنا حالات في التاريخ الإسلامي، تولى فيها الإمارة أمراء ظلمة وكان الغالب على الناس الصلاح والاستقامة.
وجوابا عن استدلال بعضهم بالآية {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} كشاهد على صحة تلك المقولة، أوضح أستاذ الحديث وعلومه الدكتور أسامة نمر أن الآية تتحدث عن الولاية بمعناها العام (المحبة والنصرة) كما هو اختيار الإمام الطبري "فالمؤمن ولي المؤمن أينما كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان، وحيثما كان.. وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعض أولياء".
في السياق ذاته، اعتبر الأكاديمي الشرعي السعودي الدكتور الشريف حاتم العوني، أن تلك المقولة تتضمن معنيين باطلين: أولهما جنوح بعض الحكام والرؤوساء إلى الاحتجاج بها على فساد الرعية، وأن ظلمهم لهم تابع لظلم الرعية لأنفسهم..
أما المعنى الباطل الثاني طبقا للعوني، فهو الاحتجاج بتلك المقولة على عدم جواز مناصحة الرعية للحكام، وإنكار ظلمهم وفسادهم، والتذرع بعدم إمكانية إصلاح الحكام بسبب فساد الرعية، فليس للناس إلا الصبر على الظلم، وتفويض الأمر إلى الله.
تداعيات المقولة على الوعي الإسلامي
ما هي الآثار التي تركتها تلك المقولة على الوعي الإسلامي السياسي عبر الممارسة التاريخية؟ وما هي تداعياتها على طبيعة العلاقة بين الرعية والحكام؟
رأى الباحث الشرعي السعودي، عبد الله المالكي أنه "بالرغم من الضعف الشديد لإسناد هذا الحديث، فإنه بقي كأحد الآثار التي شكلت الوعي الإسلامي السياسي التقليدي عبر القرون الماضية"، لافتا إلى أنه استخدم كثيرا في سياق الدعاية الدينية التبريرية.
وشرح المالكي مراده بقوله: "حينما كان يتولى حاكم جائر وفاسد، تأتي الدعاية الدينية لتبرر له ذلك.. لا تستغربوا ولا تلوموه، ولا تنكروا عليه، ولا تسعوا لخلعه.. بل راجعوا أنفسكم! فأنتم السبب! لأنه كما تكونون يولى عليكم".
ولهذا كان بعض الفقهاء طبقا للمالكي حين يأتيه الناس يشكون من ظلم الأمراء، فإنه يوصيهم بالتوبة والاستغفار والرجوع إلى الله بدل أن يحثهم على النضال والمقاومة للظلم والفساد، لأن فساد الحاكم وظلمه في نظر ذلك الفقيه إنما هو بسبب ذنوب الشعب، "وكما تكونون يولى عليكم".
وردا على سؤال "
عربي21" حول تداعيات تلك المقولة على وعي المسلمين وسلوكياتهم، أكدّ المالكي أن تلك الفكرة (الدينية) الخاطئة، أشاعت الروح السلبية المتقاعسة لدى عموم المسلمين في القرون المتأخرة، زمن التخلف والتراجع الحضاري، أمام تفشي فساد وجور السلطة الحاكمة، وأنتجت ما يُعرف بـ"العبودية الطوعية" أمام تسلط وهيمنة الحكم الفردي.
وفي تفنيده لتلك المقولة قال المالكي: "وبالرغم من معارضة هذا الأثر للمنظومة النصية الواردة في وجوب الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وكذلك النصوص الواردة في فضل جهاد الطواغيت باللسان والسيف، فهي مخالفة للمنطق العقلي، وشواهد التاريخ، فكم من حاكم عادل وصالح ورثه من بعده حاكم ظالم وفاسد، أو بالعكس، والشعب هو الشعب، والجيل هو الجيل.."، خالصا إلى القول: "أي أن صلاح الحاكم وفساده لم يكن نتيجة لصلاح الشعب وفساده".
من جانبه رصد الباحث التونسي، مصطفى البعزاوي، في حديثه لـ"
عربي21" تأثير تلك المقولة في واقع المسلمين السياسي والاجتماعي بأنه "أدّى إلى تأسيس عقد اجتماعي للمسلمين فريد من نوعه في العالم، رغم عدم تطابقه مطلقا مع بديهيات المقولات الدينية، هذا العقد تأسس على عاملين:
أولهما:
وفقا للبعزاوي: هو الطاعة الآلية للحكام، والقبول بكل من وصل للحكم وبأية طريقة كانت، وهو ما أدّى إلى خرق منظومة الشروط الإسلامية لتولي أمر المسلمين، وحرر الحكام من الالتزام الأخلاقي باحترام الحدود التي يفرضها الدين..
وثانيهما: انتظار المعجزة لإحداث التغيير، ولعل "المهدي المنتظر في نسختيه المذهبيتين هو هاجس واحد للمعجزة التي لم يسع المسلمون تحقيقها في حياتهم الفعلية كما فعلت بقية شعوب الأرض".
قد يكون أخطر ما في تلك المقولة عند من يرى صحة معناها، التأسيس لاستدامة الظلم في ديار المسلمين، فما دام أن الأمر بكليته قدري، و"ظلم الأمراء بسبب ذنوب الرعية"، فليس للناس شأن بما يفعله الظلمة، وما عليهم إلا إصلاح أنفسهم بالتوبة والاستغفار وتفويض الأمر إلى الله، ما يعني في نهاية الأمر ترسيخ أركان القائم خوفا من أي قادم.