كتب جيم كوتشوك: في عام 1999 كان اعتقال أوجلان (مؤسس حزب بي كا كا) وتسليمه لتركيا، وهو العام ذاته الذي شهد هبوب رياح القومية في البلاد، حيث نال الحزب الديمقراطي اليساري (الكردي) وحزب
الحركة القومية نصيبهما. ففي
انتخابات نيسان 1999 حصد حزب الحركة القومية المرتبة الثانية بنسبة 18%، وكان أمام الحزب خياران، الوقوف بصف الشعب أو الوقوف مع الطبقة البيروقراطية، وللأسف رجّحت الحركة القومية الخيار الثاني.
في تلك الفترة، وبسبب تأثيرات انقلاب 28 شباط، لم تكن النظرة تجاه حزب الفضيلة وحزب الطريق القويم نظرة جيدة، وعلى ما يبدو كان الائتلاف بين الأحزاب الثلاثة: الحزب الديموقراطي اليساري وحزب الحركة القومية وحزب الوطن الأم، أمرا لا مفر منه.
أول الأخطاء
لم يكن الائتلاف قد تشكّل بعد حين قامت "رهشان إيويد" (رئيسة الحزب الديمقراطي اليساري) بتوجيه اتهامات من العيار الثقيل لحزب الحركة القومية، وكرد فعل طبيعي كان على حزب الحركة القومية الانسحاب من الائتلاف، إلا أن "دولت بهجلي" (رئيس حزب الحركة القومية) تجاهل تلك الاتهامات الجارحة واضطر لابتلاعها. وكان ذلك الخطأ الاستراتيجي الأول لحزب الحركة القومية في فترة رئاسة دولت بهجلي.
تشكّل ائتلاف الأحزاب الثلاثة، ولم يستطع حزب الحركة القومية أن يحصل على أية وزارة مهمة، واضطر لإدارة الوزارات الخدمية كوزارتي الصحة والمواصلات.
كانت هذه التصرفات قد أثارت استفزاز القوميين الأتراك، لكن حسن ظنهم بالحزب منعهم من الاحتجاج عليه. إلا أن عدم وجود أي إنجاز ملموس للحزب بعد تشكيل الائتلاف، وتوجُّه الرأي العام لصالح حزبي اليسار الديمقراطي والوطن الأم، وعدم اتخاذ أي خطوة بما يخص قضية الحجاب، ساهم في ظهور بعض أصوات الاحتجاج.
إعدام أوجلان: المرحلة المفصلية
النقطة المفصلية كانت حول اتخاذ قرار إعدام "أوجلان" أو قرار عدم إعدامه. إذ أصدرت المحكمة قرار إعدامه وبقيت موافقة الحكومة. وكان يجب عرض الملف على مجلس النواب لكي يتم تنفيذ الحكم.
من ناحية أخرى، كانت العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في تحسّن اعتبارا من عام 1999، وكانت الحكومة تمضي قُدُما في الإصلاحات. الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم يكونا يرغبان بإعدام "أوجلان" ، في وقت كان حزب الحركة القومية قد وعد الشعب بإعدامه. إلا أن قرار الحكومة الذي صدر بعد اجتماع دام سبع ساعات ونصف قضى بإبقاء الملف دون عرضه على البرلمان. في تلك الأثناء لو قرر حزب الحركة القومية الانسحاب من الحكومة لربما كان حصد أعلى نسبة أصوات في الانتخابات اللاحقة.
وكمثل كل مرة، لم يُدْل "بهجلي" بأي تصريح وحاول التغطية على هذا الملف. كان القوميون الأتراك قد عاشوا خيبة أمل كبيرة. ولم تكن المرة الأولى التي يُخيِّب فيها "بهجلي" ظنهم. كما أن ملف الاتفاقيات مع أوروبا كان يمضي قُدُما، ولم يستطع الحزب أن يقف في وجه هذا أيضا. كان ملف إعدام "أوجلان" قد أُغلق تماما. ولم يستطع "بهجلي" أن يفعل شيئا تجاه كل هذه الأمور.
كانت لـ"بهجلي" فرصة أخرى لينسحب من الائتلاف حين أُلغي قرار الإعدام، لكن يبدو أنه لم يكن يفعل ذلك لأجل مصلحة الدولة العليا!! وبحصول الانفجار الاقتصادي عام 2001 نتيجة الأزمة الاقتصادية لم يكن بالوسع فعل أي شيء. لم يستطع حزب الحركة القومية أن يدخل البرلمان في انتخابات عام 2002 دافعا بهذا ثمن أخطائه.
الحركة القومية وتضييع الفرص
استطاع الحزب أن يدخل البرلمان مرة أخرى، لكن دوره الأهم كان بعد انتخابات 7 حزيران الأخيرة. لمّح "بهجلي" منذ الليلة الأولى بعد الانتخابات إلى انتخابات مبكّرة، وقال: "لتجلس الأحزاب الثلاثة: حزب الشعوب الديمقراطي - حزب الشعب الجمهوري - حزب العدالة والتنمية ولتشكّل حكومتها الائتلافية". ثم بعد الأحداث الإرهابية الأخيرة التي جرت في شهر تموز مع انهيار عملية السلام مع بي كا كا، وبدء العمليات العسكرية ضدّه وضد تنظيم الدولة "داعش"، هنا كان على حزب الحركة القومية أن يُعمِل ذكاءه استراتيجيا. هل تسألون: لماذا؟
إن الأعمال الإرهابية التي قام بها تنظيم "بي كا كا" جعلت احتمال مشاركة حزب الشعوب الديمقراطي في الائتلاف مستحيلا. وبقي الدور على حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية. لكن هذا أيضاً لم يحدث. إذن؛ بقيت الانتخابات المبكرة خيارا وحيدا. وحين عُرِض ملف إنشاء حكومة مؤقتة خلال فترة الانتخابات لم يستجب حزب الحركة القومية كذلك. أي أن الحزب لم يقل "نعم" على أي شيء. كما أخطأ الحزب بدخوله الائتلاف عام 1999، فإنه يرتكب خطئا آخر بعدم مشاركته في الائتلاف اليوم.
لنقل إن الحزب فعل الصواب حين لم يدخل الائتلاف، لكن لِمَ لم يوافق على حكومة الانتخابات على الأقل؟ واليوم إن استطاع حزب الشعوب الديمقراطي المشاركة في الائتلاف، فإن حزب الحركة القومية سيكون مسؤولا عن هذا. لقد ارتكب حزب الحركة القومية بفعله هذا خطأ استراتيجيا كبيرا. إذ إن الوضع حساس وخطير، وتنظيم "البي كا كا" يتلقى دعما لم يسبق له مثيل.
تاريخ من التخبّط السياسي
لقد كان بوسع حزب الحركة القومية أن يتقدّم خطوات ملموسة في القضاء على الإرهاب، لكنه لم يفعل. ماذا سيفعل الحزب إن حدثت الانتخابات المبكرة في تشرين الثاني ولم يستطع أن يحصل على أصوات أعلى، هذا إذا لم يخسر أصواتا من بين أصواته؟ هل سيرفض المشاركة في الائتلاف مرة أخرى؟ هل سيرفض كل الملفات المطروحة؟ إذا كانت البلاد تعيش أزمة صعبة، وكان باستطاعة حزب الحركة القومية المساعدة في تجاوز هذه الأزمة، فلماذا لا يفعل الحزب ذلك؟ ألا يدعو هذا للتساؤل؟ إذا استطاع أحد فهم تصرفات الحزب فليفسرها لنا.
إذا كنت تريد الدخول إلى مجال العمل السياسي؛ يجب عليك أن تكون ناجحا في خدمة الشعب، وفي إدارة الدولة. أما إذا كنت تريد المعارضة فقط دون أي هدف أو إنجاز؛ فإنك قد تستطيع الاستمرار في العمل السياسي.. لكن لن يُكتب اسمك في التاريخ وستوضع طيّ النسيان.
ها هو حزب الشعب الجمهوري: من أقدم الأحزاب في
تركيا. هل ترون له إنجازات كبيرة بين الناس؟ الجواب: "لا" ، وها هو اليوم صار حزبا مغمورا لا يُذكر إلا نادرا، مع أنه كان يستطيع نيْل أصوات الشعب لو قدّم بعض الخدمات في فترات ولايته. قد يقول البعض: "لكن لا يزال حزب الشعب يحصل على نسبة معتبرة من الأصوات"، نقول: هذه الأصوات ليست مضمونة، بل هي تقل مرة وتزداد مرة أخرى. ولا يصح الاعتماد عليها أبدا.
للأسف لم يتعلم حزب الحركة القومية من أخطائه التي ارتكبها عام 1999، وها هو يعيد الأخطاء نفسها لكن بصورة عكسية هذه المرة. والقرارات التي تتخذ في المواقف الصعبة المتأزمة هي التي تدلنا على حقيقة موقف الحزب.
(عن صحيفة ستار التركية - ترجمة وتحرير تركيا بوست، خاص بـ"عربي21")