بادئ ذي بدء نقصد بالحركة الإسلامية بشكل عام جميع الطيف الإسلامي العامل في الساحة الإسلامية، من جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في الباكستان، إلى الجماعات التبليغية والسلفية بشتى ألوانها، إلى الأحزاب الإسلامية المختلفة. إلا أن التركيز سيكون من بداية القرن العشرين وخصوصا من فترة انطلاق جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 لتكون بداية تحديد زمني.
منذ أكثر من 85 عاما ومازالت الحركة الإسلامية بمفهومها الواسع تتصدر تفاعلات مجتمعاتها وبلدانها وكان لها إسهاماتها الفكرية والدعوية والسياسية والاجتماعية إضافة لتقديمها نخبة من المفكرين والعلماء والدعاة. واستطاعت أن تصل إلى أغلب فئات المجتمع؛ من أطباء ومهندسين ومعلمين وقضاة ومهنيين وطلاب ومن معظم أطياف المجتمع. وخاضت الحركة الإسلامية في تاريخها الطويل تجارب عديدة متنوعة. ولا شك فإن جماعة الإخوان المسلمين هي أكبر هذه الجماعات وأطولها عمرا من حيث البنية والتماسك وقد خاضت تجارب مختلفة من سياسية ومقاومة واجتماعية ودعوية وفكرية ونقابية.
وخاضت الجماعة تجارب متنوعة مع الأنظمة الحاكمة، فمنها الهادئ ومنها العاصف ومنها ما بين المنزلتين ووصلت إلى سدة الحكم في الانتخابات الرئاسية في مصر وشكلت الحكومة في تونس. ولقد تميز مؤسسها حسن البنا بأنه استطاع في وقت مبكر أن يقدم بانوراما إسلامية واسعة من حيث النظرة والاستراتيجية والفهم. وبعد اغتياله لم يتمكن أحد من بعده أن يقدم طريقة أو آلية واضحة المعالم في كيفية إسقاط هذه البانوراما على الواقع ، وظلت الجماعة تنادي بشعار إقامة الدولة الإسلامية (أو الحكم الإسلامي) دون تحديد خارطة طريق واضحة. لقد كانت الخارطة العامة إصلاح الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم يأتي إصلاح الحكم، لكن هذا الطريق عام جدا وليس بالضرورة أن هذه الانسيابية في عملية التغيير حتمية. وهي كذلك ليست قطعية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ولا تبين ما شروط الانتقال بين المراحل.
وظلت جماعة الإخوان المسلمين منذ ذلك التاريخ وإلى الآن وهي في إطار هذه المفاهيم تقريبا.
والمستقرئ لمسار الحركة التفاعلي يمكن أن يستنتج أن المخاضات التي عاشتها على تنوعها وكبرها في بعض البلدان لم تكن في سياق التخطيط أو البناء على فكر واضح أو من خلال عملية تغيير واضحة المعالم.
في حقيقة الأمر، بدت عملية التغيير قائمة على التفاعل مع الأحداث وردات الفعل، وعلى تطور الأحداث وتفاعل المتغيرات ومحاولة استغلال الفرصة بشكل من أشكال التفاعل الحي الذي ينقصه التخطيط المسبق والإعداد والتجهيز، ولهذا كانت التجارب وخصوصا ما حدث في مصر وتونس وليدة اللحظة ووليدة التفاعل مع الأحداث وتطورها لا نتيجة ترتيب وتخطيط معد له.
خاض باقي طيف الحركة الإسلامية تجارب متنوعة، فحزب التحرير مثلا اتخذ نهج إقامة الخلافة أولا وسار في هذا التصور محاولا الوصول إلى الحكم من خلال محاولات انقلابية عن طريق الجيش ولكنها لم تفلح، واندثرت هذه الفكرة بحكم الواقع وسطوة العسكر وطغيان الحكم، ومازال فكر الحزب على ما هو عليه تقريبا منذ التأسيس. وانتهجت جماعة التبليغ منذ تأسيساها وإلى اليوم نهج الدعوة، وإلقاء بذرة الخير لعلها تثمر يوما ما. وخاضت الحركة السلفية وتطورت في تجربتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فمن مجموعات لا تجيز الخروج على الحاكم إلى مجموعات تكفر الحاكم والمحكوم، وأنتجت نهجا ميزته الغالبة عليه التشدد وعدم اللين وغلب عليه طابع التحريم والكراهية والدخول في تفاصيل جزئية والتشدد فيها، والابتعاد عن حقيقة التغير المجتمعي، وعدم الالتفات إلى هوان الأمة على الناس وضعفها أمام الدول العالمية الأخرى وضياع سيادتها. إلى أن الحركة السلفية عموما شهدت تغيرات داخلية انقلابية فظهر منها من أعاد حلة ما كان قد حرم مثل التصوير واستخدام وسائل الإعلام بكل أشكاله، والاختلاط بالأجانب والسياحة ، والانفتاح على المجتمع والدعوة والتحدث إلى عامة المسلمين بعيدا عن لغة التشدد، ومنهم من تطرف إلى أقصى درجات التطرف فانتقل إلى دائرة التكفير والحكم بردة من ليس معهم وإباحة قتل المسلمين بحكم الردة. صحيح أن هناك بعض الشخصيات السلفية نحت منحى الاعتدال والحوار مع الأطياف الإسلامية الأخرى ورأب الصدع إلا أن الفكر السلفي مازال بسمته العامة مفتقرا لأمرين مهمين هما: التوازن، ووضوح منهج التغيير والاتفاق الداخلي عليه. ومازال الفكر السلفي يراوح بين نقيضين في التغيير من مهادنة الحكام والولاء لهم إلى التكفير وقتال الحكام وكل من يخالفهم الرأي.
ولما كانت جماعة الإخوان المسلمين هي أقدم هذه الجماعات وأكثرها تنظيما وأكبرها عددا وانتشارا وخاضت تجارب كبيرة على المستوى السياسي والمقاومة، فإن الحديث سيتركز عليها بشكل عام، ومما لاشك فيه أن ما يقال عنها يمكن إسقاطه على الحركات الأخرى بالمضمون إلى حد كبير.
إن تقييم جماعة الإخوان المسلمين بتاريخها الطويل وتجاربها لا يمكن أن يكون في مجموعة صفحات أو في مقال. إلا أن الأمر يستحق الإطلالة الأولية في منحاها الاستراتيجي العام وليس في تفاصيل الأحداث والتكتيكات والمناورات والتفاعلات الداخلية، ذلك لنخرج أنفسنا من عنت تقييم الأنشطة والأهداف التفصيلية والمناورات الآنية ومدى فاعليتها إذ إن ذلك شأن داخلي لا يستطيع المراقب الخارجي معرفته. والمراقب الخارجي ينظر إلى الأداء الاستراتيجي العام محاولا الإطلال عليه بعيدا عن تفاصيل الأعمال في الميدان ومركزا على النتائج العامة التي يراها من الخارج.
دورة الحياة
إن الجماعات والمؤسسات والدول كالبشر، تعيش وتنمو وتتطور وتكبر وتهرم ثم تزول، ولكن الفرق بينها وبين البشر أن المؤسسات أو الجماعات ممكن في وقت الضعف أن تولد لنفسها دورة حياة جديدة من خلال تجديد رئيسي في الفكر أو الاستراتيجية أو الأهداف. والناظر إلى الحركة الإسلامية وخصوصا الإخوان المسلمين يلاحظ تراجعا وترهلا و فقدانا للوميض والبريق وخصوصا بعد تجربتي مصر وتونس وما أحاط بهما من فشل أو إفشال. كما تأتي الأحداث في الأردن لتبين ما تتعرض له الجماعة من مخاض داخلي مقلق لكينونتها ووحدتها. وبالرغم من المدة الطويلة جدا للجماعة، إلا أنها لم تستطع أن تجدد في طرحها الفكري والاستراتيجي وفي آليات التطبيق، ولم تبدِ براعة في المناورة للوصول إلى أهدافها (لا يقصد هنا في التجديد والمناورة التنازل عن المبادئ والأهداف العامة)، وإن كانت الحركة الإسلامية في تونس أكثر براغماتية إلا أنه وبالرغم من هذه البراغماتية انتهى المطاف بها تدريجيا إلى خارج الحكم.
تعيش الحركة الإسلامية عامة والإخوان المسلمون خاصة مرحلة صعبة ومن المتوقع إذا استمرت الأمور على ماهي عليه أن تدخل الجماعة مرحلة الهرم وصولا إلى مرحلة الموت السريري، بمعنى أن دورة الحياة للجماعة في مرحلتها الأخيرة. وللخروج من هذه الحالة فإن على الحركة الإسلامية عامة والإخوان المسلمين خاصة توليد دورة حياة جديدة من خلال حركة تجديدية كلية وجذرية قائمة على خمسة محاور أساسية:
1. التجديد في التركيبة الفكرية:
منذ عهد حسن البنا وحتى هذه اللحظة لم تقدم الحركة الإسلامية تجديدا في تركيبتها الفكرية، بل ظلت تطرح ما طرحه مؤسسها، وكأن العجز عن تنفيذ وتحقيق ما كان يحلم به البنا ظل هو السائد والمهيمن على الفكر والأسلوب والطريقة والهيكلية. صحيح أن الجماعة قامت بمناورات سياسية كالمشاركة في الانتخابات التشريعية، ومناورات اجتماعية من خلال الجمعيات الخيرية، وبعض المناورات الشعبية مستفيدة من الأحداث في العالم الإسلامي وخصوصا أحداث القضية الفلسطينية. إلا أن هذه المناورات تبقى غير قريبة من الجوهر وبدون أثر تغييري حقيقي في المجتمع أوفي التركيبة السياسية للدولة، بل هي مناورات أبقت الحركة كترس في ماكينة الأنظمة مما عاد بالنفع الاستراتيجي على الأنظمة أكثر منه على الحركة الإسلامية. والمطلوب الإجابة وبكل جرأة عن مجموعة من الأسئلة منها: ما هو النطاق المركزي للحركة الإسلامية في هذه الفوضى الفكرية التي تعيشها الأمة؟ هل هو الجهاد بمعنى بذل الجهد بمختلف الجوانب أم هو إقامة دولة الإسلام؟ في الحقيقة، ظلت مسألة التربية هي النطاق الرئيسي في فكر الحركة الإسلامية التي إذا انحلت مشاكلها (أي التربية) انحلت باقي المشاكل، فهل هي كذلك الآن؟ أم أن النطاق الرئيس يحتاج إلى تجديد وإعادة نظر عميقة وخصوصا بعد ثورات الربيع العربي.
ومن الأسئلة: أين موقع الحزبية الآن وكيف يتم انخراط الشعب في العمل بدلا من أن تتحمل الحركة الإسلامية العبء لوحدها؟ ثم أين المتخصصون في علم الاجتماع والسياسة والفكر والاستراتيجيات في الساحة الحركية؟ إذ الملاحظ على النتائج أنها نتاج ممارسة تقوم على التجربة والخطأ والتعلم من حركيين مخلصين لا متخصصين، وهنا غابت التخصصية.
وما هو المشروع الفكري الذي يحلم به الإسلاميون؟ هل هو استعادة صورة الخلافة في عهد الراشدين؟ هل هو اختزال الشريعة في القانون في ظل دولة وطنية (قومية)؟ هل هو تطوير تطبيق الشريعة لتصل إلى الأمور الجنائية إضافة إلى الأحوال الشخصية؟ أم هو الإصلاح في ظل دولة قهرية؟ أم المشاركة في الانتخابات البرلمانية وبالتالي التحول إلى جزء من أجزاء معادلة الديمقراطية المطروحة في ظل الدولة القومية (nation state)؟
2. التجديد في التركيبة الاستراتيجية
وهو نتاج طبيعي للتجديد في التركيبة الفكرية، وهنا تطرح أيضا مجموعة من التساؤلات الحرجة في خانة التفكير والتحليل الاستراتيجي: هل بقي مجال لنهج الإصلاح يمكن أن ينجح بعد تجربة مصر وليبيا واليمن، أم أن نهج الثورية هو المطلوب؟ ما الرؤية، هل هي الوصول إلى الحكم أم إصلاح اجتماعي أم إصلاح سياسي أم البقاء على الحياة؟ وبالتالي ما الأهداف الكبرى في ظل واقع عربي مرير في هذه الحقبة التاريخية؟ ما مهمة الحركة الإسلامية وماذا تفعل بالمواليد الجدد على الساحة الإسلامية من
داعش وغيرها؟ وما رؤيتها الجيوستراتيجية في واقع يتدخل فيه البعيد قبل القريب وتتدخل فيه القوى العالمية الكبرى وقوى إقليمية مثل إيران وغيرها؟
3. التجديد في التركيبة البنيوية (الهيكلية)
الناظر إلى الإسلاموية الحركية يستنبط أن بناها الهيكلية صممت منذ العشرينات لتناسب ذلك الواقع ولتحقق أهدافا في ذلك الزمان وفي تلك البيئة، فهل من المعقول تصور أن البيئة الحالية هي نفس البيئة قبل ثمانين عاما وبالتالي تبقى الأطر الهيكلية هي نفسها دون موائمة للعصر ولأحداثه الكبرى الحالية؟ ناهيك عن بعض التيارات الإسلامية التي قد تحرّم التراتيب الهيكلية أو أن الشيخ هو الأول والثاني والأخير دون اعتبار لرأي الكوادر الأخرى. ألا يوجد فكر تجديدي في هذا الشأن؟ ألا يوحي الربيع العربي الكبير بمتغيراته الكبرى بإمكانية أن تكون الحركات الاجتماعية بديلا معتبرا قد يوازي النخب والتنظيمات والأحزاب؟ ثم كم عدد الأفراد الذين ينضوون تحت راية الإسلاموية الحركية كأفراد منتظمين مقارنة بعدد الشعوب الإسلامية التي تصنع الأحداث حاليا دون أن تنتظر الحركات الإسلامية التقليدية؟ صحيح أن الحركة الإسلامية ذات طابع أيديولوجي وإطار بنيوي وهي قادرة على التعبئة، إلا أن الحركات الشبابية التي ظهرت في الربيع العربي ويقودها في الأساس شباب وشاركت بفاعلية في هذا الربيع تستحق التفكير التجديدي الإبداعي في الهيكلية ليكون لهم دورهم الفاعل بالرغم من أن حركتهم ذات تركيبة بنيوية رخوة. ولعله أضحى من الضروري البحث عن التجديد الإبداعي في الهيكلية بدلا من الغرق في هياكل تقليدية هرمة لم تعد تصلح حتى لتحريك نفسها في بيئات ذات حركية وتعقيد عال جدا؟
4. التجديد في التركيبة التطبيقية
أي في إنزال الأفكار على الأرض، ففي الغالب مازالت الإسلاموية الحركية بمختلف تنوعاتها تستخدم نفس الآليات التي رسمت منذ التأسيس. صحيح أن هناك آليات جديدة كانت تبرز من حين إلى آخر لكن في العموم هناك جمود في آليات التطبيق ناتج في الأصل عن الجمود في التركيبة الفكرية والتركيبة الاستراتيجية والتركيبة البنيوية الهيكلية. وظلت الآليات محصورة في الإسلاميين أنفسهم أو أنصارهم في أحسن الأحوال، لكن أين الجمهور وأين الشباب والنساء من هذه الآليات؟ وما المساحات المشتركة بين التمدن الإسلامي والتمدن غير الإسلامي القادم من الغرب؟ وما المساحات المشتركة بين الإسلاميين وغير الإسلاميين في نفس البلد؟
وهل سيبقى مصطلح إسلامي وغير إسلامي يتداول و يفرق بين أبناء المجتمع الواحد وأبناء الدين أنفسهم؟ ألا يمكن التجديد الحقيقي في آليات جديدة للفعل والحشد، والتحرر من بعض القيود التنظيمية والحزبية؟
5. التجديد في التركيبة الإيمانية والأخلاقية
وهو جانب مهم ليس فقط في حياة الحركة الإسلامية بل في حياة أبناء الأمة الإسلامية عموما. فعلى مستوى أبناء الحركة الإسلامية أنفسهم هناك حاجة إلى تجديد في التركيبة الإيمانية والأخلاقية التي هي أساس الشريعة الإسلامية "وإنك لعلى خلق عظيم". وهناك حاجة ماسة لأبناء الأمة الإسلامية نتيجة ما فعلته الحداثة بالمجتمعات الإسلامية من تغير في المفاهيم والسلوك. إن محاولة بناء جيل قرآني لا تجدي إن لم يعرف هذا الجيل مكونات أمته ومكونات الحضارات الأخرى والتعرف عليها بعقلية المتدبر لا عقلية الرافض، وبعقلية الواعي المستنير لا بعقلية المنغلق، وبعقلية الواثق من التركيبة الأخلاقية والنماذج الأخلاقية في حضارته لا عقلية الخجول.
ليس أمام الحركة الإسلامية في هذه الآونة إلا التجديد الكلي الجذري، وإلا ستدخل مرحلة الموت السريري بأسرع مما يتوقع قادتها. وعليها ألا تخشى التجديد الجذري خوفا من فقد أنصار على اعتبار أن التجديد في أصله يتحدى تقاليد استقرت في العقول، وقد يثير قضايا شائكة لا يستطيع الجيل القديم أن يتخيل نفسه أن يعيش في حياة حركية بدونها. أم سيظل الإسلام ينتظر مشروعه التجديدي من المهدي المنتظر؟ أم من أجنبي هو في الأساس مجهض ومناهض لبزوغ نور جديد في المنطقة؟ أم من داخل ترنخ وتقوقع بفكر حزبي وكل ما في وسعه هو أن يكرر اسطوانته القديمة التي نشأ عليها دون اعتبار للمتغيرات الكبرى في المنطقة.
وعليه، فقد أضحى التجديد الكلي ضرورة حتمية ليعطي دورة حياة جديدة بفكر جديد واع متفتح واستراتيجية طموحة مستنيرة وهيكلية إبداعية وآليات تطبيق يشترك فيها كل أبناء المجتمع. وإن لم يتم فعل ذلك فلا بد من نشاط فكري عميق للتفكير في مرحلة ما بعد الإسلاموية الحركية.