مقالات مختارة

مسيحيّون بلا مسيحيَّة

سمير عطالله
1300x600
1300x600
كتب سمير عطا الله: 

"كمثل شجرة باسقة، في
ظلّها ذئب ينهش حملا،
ولا تسقط منها ورقة واحدة"
قسطنطين برانكوزي

ليس من الضروري أن يكون ثمن الأشياء هو قيمتها أيضا. والقاعدة أن بعض الأشياء كلما قدُمت، تضاعفت قيمتها. وأن بعض الناس كلما تقدَّموا كلما "جَوْهروا". تحدث المأساة كلما حدث العكس: في الناس وفي الأشياء. وتحدث أيضا عندما لا تعود الشعوب ترى أبعد من أنوفها، ولا تفكِّر إلا من آذانها، وتغلب فيها الحواس الطائشة على العقل، بيت الضمير.

العقل منبع ومردَّ، كل شيء في حياتنا، كأفراد وجماعات. أداة التطوّر أو آلة التخلّف. قبائل "الدنكا" في السودان لم تكن قد رأت شيئا سوى حيوانات وزحافات الغابة، فألَّهتها. واكتشف الرجل فيها أنه أقوى من المرأة، فسخَّرها وجلس يرتاح ويُدخن أقرب الأنواع إلى الحشيش. عندما لا تعرف غير عالمك يستحيل أن تعرف نفسك.

السياسيون، في "العالم المتحضِّر" سخَّروا الرجال وأطلقوهم بعضهم في إثر البعض. والليبيري تشارلز تايلور، سخّر الفتيان والأطفال. "داعش" ليست أول من فعل ذلك.

يفرض العقل مجموعة من القيَم والمستويات على ما نسمّيه المجتمعات. وهذه يُميّزها أصحاب العقول فيها، في العلم والأدب والسياسة والحياة. يضبط العاقلون ميولها الغرائزية، ويُلزمونها القوانين، ويردّونها عن التَهْلكة، وينظّمون فيها أعمال البِر والخير والمشاركة، ويحاولون نهْيها عن المهاوي، ويرشدونها كلما اختلط عليها الهُبوب والحميّة، الإخلاص والعمى، الشجاعة والسفْه.

الأمم التي بلغت عصر العقل، أو المنطق، أو الفكر، في مختلف تسمياته وتجلّياته، بلغت تلقائيا أيضا عصر الطمأنينة. ليس من أعدائها، وإنما من ذاتها. عندما قرّرت ألمانيا أن تتوحّد من جديد، كان أكثر الخائفين أقرب الحلفاء: فرنسوا ميتران والخارجية الأميركية والبلاد التي علّقت الدوتشي من ساقيه: فماذا لو أن بلاد هايدغر وغوته وماكس فيبر لم تبلغ المنطق كاملا بعد. ماذا لو ظهَر من جديد رقيب سابق يُجيد الخطابة ويرخي شيئا من شعره على جبينه ويُعدُّ لكل خطاب كأنه يؤدّي دور الساحر على المسحور؟

سارعَت أوروبا إلى توسيع وحدتها في ظلّ مؤسسات ديموقراطية من أجل أن تضبط شهَوات التفوّق والعنف وفُرص التسلُّط. بولونيا التي أنقذها ستالين بأقدامه من جزمة هتلر، أصبحت تنام هانئة على جانبي الحدود. لن يُباغتها جار أصيب بالأرَق الليلة السابقة. لن تفقد مرة أخرى 3.5 ملايين إنسان.
يُعطي العقل أسماء مختلفة في مراحل مختلفة. البعض يسمّيه الضمير. 

ماركس سمّاه المانيفستو، متجاهلا أن صاحب أول مانيفستو كان نجارا من الناصرة، اقتحم الهيكل في القدّاس وهو بعد في الثانية عشرة. لم تكن اشتراكيته "علمية"، لكنها كانت بلا سيبيريا. واسمحوا لي، بمزدوجين، أول مَن ابتدع كلمة اشتراكية في اللغة العربية، كان أحمد فارس الشدياق، صاحب الساق على الساق، المجْمع اللغوي الأسطوري الذي تجاوَز البساتنة وأشهَر في وجه المعلم بطرس سيف المبارزة، هازئا من محيط المحيط، سابرا في أعماق اللغة وبحور المفردات، مثل حوت هيرمان ملفيل في رواية "موبي ديك"، وظلّ على رأس الشجرة يفرط كروزها وكنوزها وحيدا إلى أن أطلّ عبدالله العلايلي. عملاق في حجم هرقل، وبِطول نابوليون.

مانيفستو يسوع الناصري، كان مقتضبا: دعوا الموتى يدفنون موتاهم. شرحُها، الحقوا الشمس حيث تشرق، لا حيث تغيب. اتبعوا النور. ارتقوا بأنفسكم الصغيرة وسيروا في الأرض متواضعين بها، ومَن دعاكم إلى العنف لا تصغوا إليه. مَن حاول إلغاء الآخر فليس منكم. من تكبَّر فقد اتضع. ويذهب الذِكْر الحكيم إلى أبعد من هذا: "إن الله لا يُحب كُلّ مختال فخور".

الحديث عن حقوق المسيحيين في لبنان، يستدعي الحديث عن المسيحية: مَن هم المسيحيون؟ هل هم أنفسهم الذين قضوا على الوجود المسيحي، وأقاموا مهرجانات التهجير، والتفقير، وتشريد النواب، ومهَّدوا الطريق الدامي إلى الطائف؟ مَن أوصلهم إلى الطائف مُنهكين، يتحاربون على أتاوات المرافئ، بيوتهم مدمَّرة بالمدافع، والسفن مكتظّة بنسائهم وأطفالهم. 

مَن هم المسيحيون حقا، وأي فرع من المسيحية يمثّلون، وأي فصل من فصول الإنجيل؟ هل هم النسوة اللاتي جعلن نصرالله صفير يركع على أرض بكركي، ثم يُرغمن القديس على تقبيل ما لا يفرق فيهن أبدا من وجه وقفا؟ هل يُغسَل العار بالصابون؟ أم هم الذين تركوا على أبواب بكركي جثة حَبر قتيل، كالرسائل التي كان يتركها العرّاب دون كورليوني على أبواب خصومه في المافيا؟

يجب تعريف الأشياء من أجل توضيحها. المسمّيات التي نستخدمها كل يوم، لا بد أن نشرحها للناس: ماذا نعني بلبنان، وماذا نعني باللبنانيين، وماذا نعني بالمسيحيين، وماذا نعني بالدستور، وماذا نعني بالمؤسسات، وماذا نعني بالباقي منها: الرئاسة والبرلمان والجيش. ولماذا نخاطب الجيش اليوم كما كانوا يخاطبون "الجيش الفئوي" زمن المؤامرة الصغيرة والحرب الكبرى. ولماذا لن نتوقف عن قتل المؤسسات من أجل أن نبكي عليها.

إذا كان لبنان حقا وطنا نهائيا كما تقول الكليشه المملَّة، كأنما هناك أوطان موقتة، فيديراليا فالوطن النهائي له قواعد نهائية أيضا. الوطن النهائي لا يكون فدراليا. ولا تُجرى فيه الاستفتاءات ضمن طائفة واحدة على منصب حاضن يمثل 19 طائفة، وخصوصا الأقل حظا والأقل عددا والأكثر خَفرا في هذه الفقعة الطائفية الحمقاء. 

يجب ألا ننسى أن بعض أكثر الرؤساء اعتبارا واحتراما ونقاء جاؤوا من الروم والبروتستانت. هل السباق على العدد أو على الصفات؟ في رواية روبرت موزيل، أو ملحمته، "الرجل الذي لا خصائل له"، تنتهي إلى أن الذي لا خصائل له هو المجموعة. هي، المجموعة، التي تتراخى أمام الأنانيات المتطايرة فوق الرؤوس. ليس الفرد الرديء نتاج مجتمع سيئ، بل كلاهما نتاج تواطؤ ضمني بين شهوة التسلّط وشبَق الخنوع. كارل غوستاف يونغ يقول إن معظم القتَلَة متبرّعون ومتطوّعون. في داخلهم شبَق مرَضي لإرضاء أسيادهم ومسخّريهم للجريمة.

يكتشف دون كورليوني، متأخرا، أن قنّاصته قَتلوا منافسين لم يكن يريد موتهم. فقط نفيهم أو إبعادهم إلى ولاية أخرى أو إعادتهم إلى صقلّية أذلاَّء، لا عمل لهم في ساحة الابتزاز والجريمة والتباهي بسرعة المسدسات ودَوْس القانون.

كان اللبنانيون يتباهون ويتنافسون ويتسابقون، في أشياء كثيرة. التاريخ والعلم والتأقلم. وطن صغير حوّلوه إلى مجموعة أوطان صغيرة. مجتمع حر في منطقة نقلها حسني الزعيم إلى عصر الثكن والدبابات منذ 1949. لم يكونوا جميعا بلا أفق. من أجل حقن دماء السوريين غادر أديب الشيشكلي دمشق مُعدَما، وجاء إلى بيروت حيث دبّرت له 200 ألف ليرة يسافر بها إلى البرازيل معتكفا في مزرعة نائية. الفريق سوار الذهب في السودان ترك القصر الجمهوري مثلما تركه فؤاد شهاب، قبل ليلة من الفجر الرئاسي الأخير. زين العابدين بن علي غادر تونس خلافا لنصائح الضباط المقرّبين. 

هناك نبلاء كثيرون ارتدوا هذه البزة الجميلة، كما هناك مهرّجون مثل معمر القذافي الذي كانت بدلاته تُخاط بأوسمتها. ديغول اكتفى بنجمة واحدة. ابنه، فيليب، ظلّ أميرالا في البحرية مثل أي ضابط آخر، مع أنه كان الأكثر علما وكفاية. وصهره الأحبّ، بقي ضابطا مثل سواه. وعندما أراد ديغول مواجهة "مؤامرة" 10 أيار 1968 كان الصهر هو الذي مَن منعه: كل تاريخك لا يساوي قطرة دم واحدة.

عندما أشاهد صوَر جنرالات أميركا، في العراق بالأمس، والآن في "التحالف" المزري ضد "داعش"، وأرى جدران الأوسمة المعلّقة، أتذكر ثياب دوايت أيزنهاور وهو يربح الحرب العالمية للحلفاء: خمس نجوم مكتسبة مع الزمن، وبلا وسام واحد. وفي اليوم الأخير من الرئاسة وقَف يودِّع الموظفين في البيت الأبيض: آمل أن تُعاملوا الرئيس الجديد كما عاملتموني. أنا مَدين لكم. ومضى إلى منزله الريفي كما مضى ديغول إلى كولومبي. صديقه الوحيد كان كاهن الرعية، الذي تبادل معه قطعة أرض قرب "البواسيري".

أولئك كانوا العسكر وكانوا "المسيحيين". 

فؤاد شهاب، الذي أقام كابيلا أمام منزله، كان أهم ما فيه حرصه على حقوق المسلمين. وقد أحاط نفسه بهم. وإليهم سلّم أمنه ومشروع دولته. وقبل أن ينظر في حاجات كسروان كان هاجسه (منذ كان قائدا للجيش) حاجات الهرمل والجنوب. والجيش الذي ربّاه فؤاد شهاب هو الجيش الذي رفض أن يُطلق رصاصة واحدة في اتجاه اللبنانيين، من أي اتجاه.

ماذا كان هدف "الاستفتاء" على "الزعامات" المسيحية؟ تمجيد البعض أم تحجيم البعض الآخر؟ لقد فاز جورج دبليو بوش بأكثرية ساحقة، وترك أميركا في أسوأ حال منذ العشرينات. ولم يكن مهمّا كيف تبِع الإيطاليون موسوليني، بل كيف أعدموه عندما رأوا ماذا فعل بهم. ولم يكن مهمّا كيف قاد صدام حسين العراق إلى الحروب، بل كيف عاد منها.

لعل أشهر اسم في تاريخ المسيحية هو بيلاطس البنطي. إنه القاتل الحقيقي، لأنه كان يعرف النتائج الحتمية لأن يغسل يديه "من دم هذا الصدِّيق". كان يعرف سلفا أن هذا حُكم بالإعدام "على الصدّيق". لكن الصدّيق الذي لم يبلغ روما مبشّرا، هزمها مصلوبا. المانيفستو الأول ضد الظُلم والقهْر والعبودية. ظلّ بلا بيت، ينام عند صيّادي الجليل. ولم يكن له سوى رداء واحد لا يزال العالم يبحث عنه. لعله يلْقاه يوما في غرفة فرنسيس، ذي القلنسوة الصغيرة. لا أوسمة ولا نجوم.

(عن صحيفة النهار اللبنانية، 5 آب/ أغسطس 2015)
التعليقات (0)