اللجنة العليا للانتخابات أعلنت النتائج النهائية الرسمية للانتخابات البرلمانية التي أجريت في
تركيا في السابع من الشهر الجاري، ولكن أجواء الانتخابات ما زالت تخيِّم على تركيا بسبب النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع، وجعلت البلاد أمام خيارين لا ثالث لهما: إما حكومة ائتلافية، وإما انتخابات مبكرة.
أحزاب المعارضة في الأنظمة الديمقراطية تسعى لتولي الحكم، ولكن أحزاب المعارضة الثلاثة التي دخلت البرلمان التركي فشلت في تشكيل الحكومة، على الرغم من تحقيق الهدف المشترك الذي جمعها قبل الانتخابات، وهو إسقاط حزب
العدالة والتنمية، بل يتهرب بعض هذه الأحزاب من المشاركة في تشكيل الحكومة، ويفضِّل البقاء في المعارضة، خوفا من تحمل المسؤولية.
حزب الشعب الجمهوري منذ سنين يتربع عرش الحزب المعارض الرئيسي، ولم يستطع أن يرفع شعبيته في الانتخابات الأخيرة التي تراجعت فيها شعبية حزب العدالة والتنمية، وبحاجة ماسة للانتقال من المعارضة إلى الحكم، حتى لا يشعر أنصاره بخيبة الأمل. وهو يحلم بحكومة ائتلافية يشارك معه في تشكيلها حزبا الحركة القومية والشعوب الديمقراطي، إلا أن هذا الحلم بعيد المنال، في ظل رفض حزب الحركة القومية الاصطفاف بأي حال مع حزب الشعوب الديمقراطي.
وحاول رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كلتشدار أوغلو أن يتجاوز هذه العقبة، وعرض على رئيس الحركة القومية دولت باهتشلي أن يتولى رئاسة الوزراء في حال قبول مشاركة حزبه في الحكومة مع حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، إلا أن باهتشلي رفض هذا العرض جملة وتفصيلا، مؤكدا أن لديهم مبادئ لا يمكن أن يتخلوا عنها من أجل الكراسي والمناصب.
قيادة حزب الشعب الجمهوري مترددة في المشاركة مع حزب العدالة والتنمية في تشكيل الحكومة، لأن رفض هذا الخيار يعني البقاء في المعارضة، ولذلك لم يغلق حزب الشعب الجمهوري الباب في وجه حزب العدالة والتنمية، بل قدَّم شروطا للمشاركة معه في تشكيل الحكومة، مثل التناوب في تولي رئاسة الوزراء، وتقاسم الحقائب الوزارية بالتساوي، دون النظر إلى عدد المقاعد، إلا أن مثل هذه الشروط لا يمكن أن يقبلها حزب العدالة والتنمية، لأنه ليس مضطرا لتشكيل الحكومة مع حزب الشعب الجمهوري في ظل وجود خيارات أخرى أمامه.
حزب الشعوب الديمقراطي الذي نجح في تجاوز حاجز 10 بالمئة، ودخل البرلمان، لعله أكثر الأحزاب المعارضة تخبطا، لأنه يجب أن يرضي الناخبين الذين صوَّتوا لصالحه في الانتخابات لأسباب مختلفة، وفي الوقت ذاته لا يستطيع الخروج من دائرة أوامر قادة حزب العمال الكردستاني.
نتائج استطلاع للرأي أجري بعد الانتخابات مباشرة تشير إلى أن 58 بالمئة من الناخبين الذين صوَّتوا لحزب الشعوب الديمقراطي يريدون مشاركته مع حزب العدالة والتنمية في تشكيل الحكومة، إلا أن خطاب الحزب خلال حملته الانتخابية كان مبنيا بالدرجة الأولى على معاداة حزب العدالة والتنمية ورئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان. وحصل الحزب على نسبة من أصوات الناخبين الأتراك الساكنين في المناطق الراقية بالمدن الكبيرة مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير، ولا شك في أن هؤلاء يرفضون بشدة تحالف حزب الشعوب الديمقراطي مع حزب العدالة والتنمية من أجل تشكيل الحكومة.
رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش صرَّح قبيل الانتخابات بأن حزبه لن يتحالف على الإطلاق مع حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة، إلا أن القيادي في حزب العمال الكردستاني مراد كاراييلان انتقد موقف دميرتاش هذا، ودعا في تصريحه لوكالة فرات للأنباء المقربة من حزب العمال الكردستاني، قادة حزب الشعوب الديمقراطي، للنظر إلى الأمام وترك "الحسابات الضيقة".
وبعد انتقاد كاراييلان هذا، خفَّف دميرتاش حدة لهجته تجاه حزب العدالة والتنمية، وقال إنهم يمكن أن يدعموا حكومة ائتلافية يشكلها حزب العدالة والتنمية مع حزب الشعب الجمهوري، إلا أن هذا الموقف أيضا قوبل بالرفض في معسكر حزب العمال الكردستاني المُقام في جبل قنديل بشمال العراق، حيث اتهم القيادي في حزب العمال الكردستاني دوران كالكان، حزب الشعوب الديمقراطي بتبني سياسة غير فعالة، وعدم قراءة نتائج الانتخابات بشكل صحيح، في الوقت الذي فوَّضه الشعب ليلعب دورا فعالا في التحول الديمقراطي الذي تحتاج إليه السياسة التركية في المرحلة المقبلة، حسب قوله.
وفي ظل هذا التخبط والتوجهات المتناقضة، قد تواجه أحزاب المعارضة أزمات تؤدي إلى الانشقاقات وتغيير الخارطة السياسية وانقلاب التوازنات. والأيام القادمة حبلى بكل الاحتمالات والمفاجآت.