يغشى فريضةَ
الصيام فيضٌ من التأكيدات الربانية على أهميتها وخصوصيتها وفرادتها، من بين العبادات كلها، والتي تأتي في العموم لتحقيق التقوى في النفس الآدمية، "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"، ومن بين مكوّنات صراط الله اللازمة التي لا تنفك عنه في الطريق إلى التقوى: "وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"، فمن بين تلك العبادات وتلك المكوّنات تخصّ فريضة الصيام بذكر فريد في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، إذ يحيط التأكيد بالصيام من وجوه متعددة، فهو مُتَضمَّن في أسلوب النداء الفريد وفي جملة النظام الصوتي الذي تتمظهر فيه الآية، وفي استخدام اللفظ "كتب" في بيان الفرض، وفي الإشارة التأكيدية على قدم فريضة الصيام قدم الوجود الإنساني المكرّم، أو على ملازمة هذه الفريضة لهذا الوجود، وأخيرًا في جعل التقوى علّة الصيام وغايته. لقد اجتمع كل ذلك للصيام في آية واحدة قصيرة، يتضافر معها قول النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه، جلّ وعلا: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به".
إن هذه التأكيدات تحيل إلى وظيفة الصيام بالنسبة للتحقق النهائي للتقوى، والذي هو تحقق الكرامة الآدمية في أسمى صورها، كما يتبين بالجمع بين قوله تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم"، وقوله: "إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، وهو ما يحيل بدوره إلى حقيقة هذه الكرامة، ويعود بالإنسان إلى ما قبل أول عهد له بالوجود، كما يتجلى في التصوير البديع للآيات الكريمة: "الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعله نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه"، إذ لم تكن مجرد الخِلقة المتمايزة المعيار الحاسم في تفضيل الإنسان، خاصة وأن ظاهر الآيات، وبالنظر إلى معنى (ثمّ) الذي يفيد الترتيب والتراخي، يشير إلى أن هذه الخِلقة كانت موجودة، وتتناسل، قبل نفخ الروح في آدم، والذي أصبح خلقًا جديدًا ومكرّمًا ومنبتًا عما قبله بهذا النفخ، "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين".
تحققت هذه الكرامة في ذلك المشهد العلوي المهيب، ولا نعلم على وجه اليقين أنها تحققت لبشر حيّ بهذه الصورة، من بعد آدم، عليه السلام، إلا لمحمد، صلى الله عليه وسلم، الذي عرج به إلى السماوات العلى، وأدخل في ذلك الموقف الجنة، كما في الحديث الشريف: "ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك"، بينما تتحقق، قبل القيامة، في صورة خاصة للشهداء، بعد مقتلهم، حينما تُجعل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل في ظل العرش.
لقد جُعل الإنسان بهذه العلاقة الجدلية بين الروح والجسد كائنًا واعيًا، وقادرًا على الاختيار، وأريد منه بخصيصتي الوعي والحرية، وبعد أن سُخّرت له السماوات والأرض وجُعل قابلاً للتعلم الذاتي وقادرًا على التعامل مع إمكانات السماوات والأرض، أن يرتقي بإرادته، إلى مراتب عليا، لا نعلم كنهها على وجه الحقيقة، وهو بهذا يختلف عن أي مثال سابق عليه وشبيه له في الخِلقة، كما يختلف عن الملائكة المكرمة التي خلقت لوظائف لا تعصي الله فيها.
وبات حال الإنسان المركّب من الجسد والروح المكرّمة، ما بين الارتقاء في مدارج الكرامة الآدمية، أو الانحطاط في مدارك البهيمية، وهنا تأتي إحدى أهمّ وظائف العبادة، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، من حيث تحرير الروح من إكراهات المادة، وفتح كوّة لها تربطها بموطنها الأول، وتصلها بمكان التحقق النهائي لكرامتها، وبذلك الفلاح الذي يلي التقوى، ولا يجوز إلا بتحقق الكرامة الآدمية، "واتقوا الله لعلكم تفلحون".
تبدو ميزة الصيام من بين العبادات كلّها، في أنّه الأكثر قهرًا للجسد، أو الأوضح غلبة لإكراهات المادة، والأكثر قدرة على التحقق كميزان ما بين نزعات الروح واحتياجات الجسد، وهو يعالج في ذلك كله الشهوات الأكثر التصاقًا بالنفس، والتي وللمفارقة لا استمرار للجنس البشري إلا بها، أي شهوتي الطعام والجنس، بما يعني أن الحياة لا تستقيم إلا إذا كانت على مراد الله، وأنه لا يحفظ للإنسان فطرته ويحول بينها وبين الارتكاس في أوحال البهيمية إلا هذا الامتثال الذي توفّره العبادة، لتؤدي العبادةُ وظيفتين، الأولى في تحرير الإنسان من الهوى، على النحو الذي يفتح له البصائر، ويمايزه عن البهيمية، فالتحرر من الهوى شرط لإبصار الحقائق: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكّرون"، والإبصار الميزة التي تفرق الإنسان عن بقية دوابّ الأرض: "ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون"، فإذا أُنجزت هذه الوظيفة، تبقى العبادة ضرورة للحفاظ على درجة الإبصار، ولبلوغ درجة التقوى، أو الكرامة الآدمية في أرقى تحقق لها، لبلوغ منزلة كامنة في حكمة الله البالغة.