تمر جماعة الإخوان المسلمين في الأردن بأزمة خانقة غير مسبوقة منذ تأسيسها قبل سبعين عاما، إذ تواجه الجماعة تحديات جدية لم تعهدها من قبل بعد موافقة الجهاد الأردنية الرسمية على منح الترخيص القانوني للكيان الجديد (جمعية الإخوان المسلمين)، بقيادة
المراقب العام الأسبق للجماعة المحامي عبد المجيد الذنبيات في الثالث من آذار/ مارس الماضي، فيما بات يُعرف بتصويب أوضاع الجماعة قانونيا.
وكان من تداعيات ذلك رفض الحكومة الأردنية السماح لجماعة الإخوان التاريخية بإقامة الفعالية التي كانت تنوي إقامتها احتفالا بمرور سبعين عاما على تأسيسها، ما قرأ فيه المراقبون والمحللون اعتبار الجماعة بحكم المنحلة، وأن الشرعية القانونية قد منحت للكيان الجديد.
صاحب ذلك كله اصطفافات داخلية حادة، وتراشق بالاتهامات والطعون بين تيارات الجماعة المختلفة، الأمر الذي أثار جملة من التساؤلات القلقة: فما الذي أوصل إخوان الأردن إلى هذه الحالة من الخلافات الداخلية الحادة المُهددة للجماعة بنشوء كيانات جديدة تتوالى انشقاقاتها عن الجماعة الأم؟ وما هي الأسباب الحقيقية المنتجة للحالة الراهنة للجماعة؟ وكيف يقرأ المعنيون والمحللون مستقبل الجماعة في ظل خلافاتها الداخلية، وعلاقتها المضطربة جدا مع الدولة الأردنية؟
تاريخية الخلافات وجذورها
في بيانه للأسباب التي أوصلت إخوان الأردن للحالة الراهنة، رأى المهندس خالد حسنين، القيادي السابق في الجماعة، ومقرر لجنة الحكماء فيها أن تفسير الحالة القائمة يتطلب الإلمام ولو بشكل موجز باتجاهات الجماعة المختلفة وتحالفاتها المتقلبة ومساراتها عبر مسيرتها الماضية.
أوضح حسنين لـ "
عربي 21" أن الاصطفافات داخل الجماعة ليست حديثة، بل قديمة نسبيا، ولها علاقة باختلاف وجهات النظر لدى الطبقة القيادية في كيفية وضع السياسات واتخاذ المواقف والقرارات في ظل المعادلات السياسية القائمة، وخصوصا العلاقة مع النظام السياسي الأردني.
وتابع حسنين قائلا: "كان الإخوان قديما ينقسمون إلى قسمين: الأول متشدد في تعامله مع النظام، والآخر أقل تشددا وأكثر مرونة وانفتاحا، وفي مرحلة لاحقة تم إطلاق مصطلحي الصقور والحمائم، فالصقور كانوا يمثلون القسم الأول، والحمائم كانوا يمثلون القسم الثاني".
وأشار حسنين إلى أن اختلافات الإخوان في علاقتهم مع النظام ليست ذات طبيعة منهجية، بل تكمن في مفردات الخطاب وآلياته، ولذلك مبررات وأسباب كثيرة، عازيا بعضها إلى أن أكثر رجالات الحمائم عملوا في مؤسسات الدولة، وخبروا النظام جيدا، فتعاملوا معه بمرونة وواقعية، في حين أن غالبية رجالات الصقور كانوا بعيدين عن مؤسسات الدولة، وربما أعلى وظيفة شغلوها هي "أستاذ جامعي".
وعن طبيعة التحالفات بين تيارات الجماعة المختلفة، ذكر حسنين أن نهاية ثمانينيات القرن الماضي وبداية التسعينيات شهدت نشوء تيار جديد داخل الجماعة، أُطلق عليه "تيار الوسط" الذي ضاق ذرعا بما يجري بين التيارين السابقين، وبدأ يعلو صوته بعدها.
وأضاف حسنين، أن "تيار الصقور كان يسيطر على قيادة الجماعة حينذاك، لكن التحولات المحلية باتجاه التحول الديمقراطي ساعدت في نشوء تحالف جديد بين الوسط والحمائم أدى إلى تراجع الصقور لصالح الحمائم.
وبحسب حسنين، فإن هذه المعادلة بقيت قائمة إلى منتصف التسعينيات، لحين دخول عامل جديد على الساحة ألا وهو وجود حركة حماس بشكل رسمي في الأردن، وقد كان لتيار الصقور الذي كان يسيطر على قيادة الجماعة مواقع مؤثرة داخل حركة حماس من حيث النصيحة والتوجيه.
وتابع حسنين بأنه، بسببب إبعاد قادة "حماس" من الأردن سنة 1999، فقد حدث انقسام داخل تيار الوسط بسبب ما أثير عن تقصير الجماعة حينها في حماية "حماس" وقادتها في الأردن، فانحاز قسم منهم إلى الصقور وقسم آخر إلى الحمائم، ما أدّى إلى تسلم الحمائم قيادة الجماعة تارة، ثم تحالفهم مع الصقور، ما أفضى إلى سيطرتهم على قيادة الجماعة تارة أخرى حتى هذه اللحظة.
ووفقا لحسنين، فإن أبرز الأسباب التي أوصلت الجماعة إلى الحالة الراهنة تكمن في اختلاف تياراتها حول طبيعة الخطاب وآلياته مع النظام السياسي، وكذلك الموقف من حركة حماس كما تراها تيارات الجماعة المختلفة. أما السبب الأكثر أهمية كما يراه حسنين، فهو عدم ثقة تيارات الجماعة ببعضها في قدرة كل منها على إدارة شؤون الجماعة، ورؤية كل تيار أنه الأقدر من غيره على القيام بذلك.
الاختلافات أمر طبيعي والانتخابات الداخلية هي الفيصل
من جانبه، اعتبر سعود أبو محفوظ، عضو المكتب التنفيذي الحالي للجماعة أن الاختلافات داخل صفوف الجماعة أمر طبيعي وعادي، وليس هناك أزمة إخوانية داخلية، إنما توجد أجندة مفروضة على الإخوان، وهم يعانون من هجمة عالمية وإقليمية ومحلية ضد الجماعة في أصل فكرتها ودورها وتنظيمها.
أما عن ترخيص "جمعية الإخوان" الجديدة، فقال أبو محفوظ لـ"
عربي21" إن "الترخيص حدث بتسهيلات حكومية، ولا شك أنه أحدث أزمة داخل الجماعة".
وحول طبيعة الاختلافات الإخوانية الداخلية، أكدّ أبو محفوظ أن الإخوان كتنظيم كبير وموجود عبر العقود الماضية، وله عمقه في كافة المناطق الأردنية (أكثر من 1200 مدينة وقرية) من الطبيعي أن يوجد في داخله اختلافات واصطفافات نظرا لاختلاف الأعمار والثقافات والخلفيات.
وتابع أبو محفوظ قائلا، إن "الاختلافات داخل الجماعة تُحل وفقا للوائح والأنظمة الداخلية المعمول بها، ويحتكم الجميع لدستور الإخوان".
وردا على سؤال "
عربي21"، "إذا كانت الأمور بهذه السهولة فلماذا لم تستطع اللوائح والأنظمة الإخوانية الداخلية معالجة الأزمة الأخيرة؟"، قال أبو محفوظ، إن "المشكلة موجودة داخل الإخوان منذ عام 1969 وهي متدحرجة، حُلت بعضها، وتدحرج بعضها الآخر، وتم ترحيل بعض جوانبها الأخرى وسيبقى الاختلاف ما بقي البشر".
وأوضح أبو محفوظ أن الإخوان في القضايا الكلية والاستراتيجية متفقون وملتزمون، والاختلافات بينهم تكون في زاوية النظر والمعالجة للقضايا والشؤون اليومية المطروحة.
وأرجع أبو محفوط أسباب الأزمة الحالية إلى تدخلات خارجية في الغالب، مشيرا إلى أن جميع مؤسسات الجماعة حاليا وعلى رأسها مجلس شورى الجماعة، تجمع على إدانة خطوة ترخيص الجمعية الجديدة.
المخارج والمسارات المستقبلية
في السياق ذاته، رأى الدكتور ارحيل غرايبة، القيادي السابق المفصول من الجماعة على خلفية طرحه للمبادرة الوطينة للإصلاح "زمزم" التي رأت فيها الجماعة لونا من ألوان الانشقاق والخروج عن أطر الجماعة التنظيمية، أن "قيادة الجماعة الحالية لو أحسنت التعامل مع مبادرته الإصلاحية التي طرحها، واستوعبتها بمرونة وانفتاح، ولم تقم بمهاجمتها وفصل القائمين عليها، لما أوصلت الجماعة إلى أزمتها الحالية".
وأوضح غرايبة أن "قصة الاختلاف داخل الإخوان قديمة، وما حدث أخيرا ما هو إلا تراكمات تدريجية شكلت أحد مظاهر الأزمة"، مرجعا الأسباب إلى "سياسية وفكرية وخلافات حول آلية التعامل مع مسار الأحداث والأوضاع وتطوراتها".
وفي جوابه عن سؤال "
عربي21" عما إذا كان الموقف من النظام الأردني وطبيعة التعامل معه من أسباب الأزمة الأخيرة، قال غرايبة: "وفقا للمعلن من مختلف الأطراف، فإن الجميع يعترفون بالنظام السياسي القائم، ويؤمنون بالعمل العلني والقانوني، ولا أحد يرى أنه خارج الدولة أو النظام".
ويُرجع غرايبة الاختلافات داخل الإخوان إلى ما يتعلق بترجمة تلك الأقوال إلى واقع، متسائلا: "إذا كانت جميع اتجاهات الجماعة ترى شرعية النظام وأنها جزء منه ومن الدولة الأردنية، فلماذا لا يتم تصويب وضع الجماعة بطلب ترخيصها قانونيا؟".
وحول المسارات المستقبلية المحتملة، رأى غرايبة أن ترخيص الجمعية الجديد عبر تصويب وضعها القانوني الأخير بات أمرا واقعا، متوقعا أن أكثرية الإخوان سيتفهمون الوضع الجديد، "لكن هناك مجموعة لن تتفهم وستبقى معارضة، وبعضهم سيأوي إلى الظل وبعضهم سيخرج من الساحة، خالصا إلى القول بأنه "لا طريق للإخوان للعمل إلا تحت هذه اللافتة القانونية".
من جهته، وافق الكاتب والمحلل السياسي حسين الرواشدة من يصف ما جرى في صفوف الإخوان "أمرا طبيعيا"، لكنه خالفهم في المبررات التي يسوقونها لتبرير ذلك وتفسيره، موضحا أن حركات "الإسلام السياسي" تشهد اليوم تراجعا في العالم العربي، خاصة ما لم تستطع منها أن تجدد نفسها، و"إذا استثنيا التجربة المغربية والتجربة التركية، فإنها لم تستطع أن تنتج خطابا جديدا يتناسب مع الواقع الجديد"، بحسب قوله.
وأضاف الرواشدة في حديثه لـ"
عربي21" أن كافة حركات "الإسلام السياسي" وجدت نفسها أمام مأزق حقيقي بعد الربيع العربي، لم تستطع أن تجدد خلاياها الذاتية في مواجهة هذا الانفجار، وفي المقابل وجدنا حركات "الإسلام المسلح" تضغط على حركات "الإسلام السياسي" لإزاحتها عن مواقفها السلمية المعهودة.
وحول علاقة إخوان الأردن بالدولة، أوضح الرواشدة أن العلاقة بين الطرفين منذ ما يقارب (15) عاما تشهد مزيدا من التراجع، ومنذ عام 2000 تقريبا بدأ الإخوان يفقدون أوارقهم السياسية لدى الدولة، لأسباب منها ما يخص النظام ومنها ما يخص الإخوان أنفسهم، موضحا أن الإخوان لم يعودوا حليفا للدولة كما كانوا طوال العقود السابقة، والمتوقع أن الدولة ستدفع باتجاه إضعافهم وإرباكهم.
وقال الرواشدة: "إن الإخوان كحركة ستشهد مزيدا من الإرباك الداخلي، والتراجع في شعبيتها في المجتمع، وستواجه مزيدا من ضغوط الدولة والحكومات، وستحاول الدولة إنشاء كيانات بديلة، لإضعاف الإخوان وإشغالهم في مسائل داخلية، وبالتالي فإنها ستتحول الأزمة من أزمة بين الدولة والإخوان إلى أزمة داخلية طويلة وممتدة وصعبة".
واعتبر الرواشدة ترخيص الجمعية الجديدة جزءا من حملة الدولة في إضعاف الإخوان، وربما تكون الحلقة الأولى في حملتها، فربما نشهد حزبا موازيا لحزب جبهة العمل الإسلامي، وربما نشهد نشوء كيانات أخرى تنشق عن الجماعة.
وحول قراءته لإمكانية نجاح الدولة في حملتها ضد الإخوان، أشار الرواشدة إلى أن ذلك مرهون بقدرة الإخوان على اجتراح رؤى جديدة، وتقديم مبادرات جديدة، وإيجاد صيغ ما لطرح حلول توافقية داخل الجماعة، مبديا توجسه من إمكانية حدوث ذلك داخل الإخوان في المرحلة الحالية.