في الذكرى الثانية عشرة للتفجيرات الإرهابية التي ضربت مدينة الدار البيضاء في السادس عشر من شهر مايو 2003 مخلفة 45 قتيلا، خرجت "اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين" للتظاهر والمطالبة بإعادة التحقيق في التفجيرات والكشف عن "المدبر الحقيقي" لها.
وكانت الدولة
المغربية قد سارعت إلى اعتقال عدد كبير من المتعاطفين مع تيار "
السلفية الجهادية" مباشرة بعد التفجيرات.
المدافعون عن المعتقلين يستحضرون كيف أن رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران شكك مرارا في ما جرى قبل توليه المسؤولية الحكومية. والمعروف أن وزير العدل الحالي مصطفى الرميد كان محاميا مدافعا عن المعتقلين والمدانين قبل أن يعلن بعد توليه مهام الوزارة أن الملف "أكبر منه كوزير".
تحول مصطفى الرميد من مدافع عن المعتقلين إلى مسؤول بدم مهدور من طرف جماعة التوحيد والجهاد بالمغرب الأقصى باعتباره "مارقا وخارجا عن الإسلام" و "وزير الظلم والعبودية" الذي "ستطاله سيوفنا طال الزمان أم قصر".
وعلى وقع الذكرى ذاتها تم انتخاب المغرب إلى جانب هولندا، بالإجماع، لتولي الرئاسة المشتركة للمنتدى العالمي لمحاربة الإرهاب خلال اجتماعه التنسيقي السابع، الذي انعقد بالدوحة. كما تم تعيين عبد اللطيف الحموشي، مدير مديرية مراقبة التراب الوطني "الديستي"، مديرا للأمن الوطني في سابقة في المغرب يجمع فيها مسؤول واحد مهمة رئاسة جهاز المخابرات الداخلية والأمن.
الحموشي ليس شخصا عاديا فقد اعتبرت حادثة استدعائه من طرف القضاء الفرنسي للمثول أمامه في تهم "تعذيب" سببا مباشرا في الفتور الذي طبع العلاقة بين البلدين سنة كاملة، رضخت بعدها فرنسا للشروط المغربية التي انتهت بتعديل اتفاقية التعاون القضائي التي تجمعهما.
والثابت منذ اثنتي عشرة سنة أن مصالح "الديستي" تواصل تفكيك كثير من الخلايا والشبكات الساعية لاستهداف الداخل المغربي أو الناشطة في استقطاب مقاتلين للالتحاق بالتنظيمات المسلحة بالخارج.
جهد استخباراتي هام لم يمنع من وقوع البلد ضحية أعمال إرهابية لعل أهمها كان بمقهى أركانة بمراكش قبل أربع سنوات.
16 مايو تاريخ ألهم عدد من الكتاب والمبدعين، كالروائي الماحي بينبين الذي ألف رواية "نجوم سيدي مومن" وفيها استلهم أحداثها مما وقع. وليس أصعب على المبدع السينمائي من تحويل رواية أدبية إلى شريط يحترم مفردات وأدبيات السينما. ويزداد التحدي صعوبة حين يتعلق الأمر برواية بنت فصولها على حدث واقعي يعتقد العامة بعلمهم بكثير من حيثياته مسببات ونتائج.
يبدأ شريط "يا خيل الله" قويا وصادما دون مواربة أو تردد. فهؤلاء صبية من حي سيدي مومن الصفيحي على أطراف مدينة الدار البيضاء، ذات يوم من أيام شهر يوليو 1994، يداعبون كرة قدم في مقابلة ما كان لها أن تنتهي دون عراك تستل فيه السلاسل والألفاظ النابية من أغمادها عنوانا على مزاج عام يبسط سيطرته على هذا الحي الهامشي.
صبية يتصارعون ويعلنون عن خطر قادم ميزته العنف والصدام، وهو ما لم يتأخر كثيرا حيث استفاقت مراكش يوم الرابع والعشرون من شهر غشت من نفس السنة على وقع أعمال تفجير وهجوم على فندق أطلس أسني معلنة عن سقوط نظرية "الاستثناء المغربي" و"القبضة الأمنية" الكفيلين بدرء أخطار ما يعتمل في دولة الجوار الشرقي،
الجزائر.
يومها، فرض المغرب التأشيرة على المواطنين الجزائريين شرطا لزيارة المغرب، فكان الرد الجزائري بإغلاق الحدود وهو أمر واقع لا يزال مستمرا إلى اليوم بما له من تداعيات إنسانية واقتصادية وسياسية رهنت مستقبل المنطقة واندماجها إلى المجهول.
أكان اختيار يوليو 1994 بداية للأحداث اختيارا عقلانيا أم هو مجرد ربط كرونولوجي أراده القائمون على الفيلم لتسهيل عملية الانتقال إلى يوليو 1999 ووفاة الملك الراحل الحسن الثاني بما يمثله من نهاية عهد وبداية عهد آخر؟ ليس مهما الجواب إيجابا أو سلبا فالصدفة في بعض الأحيان لها حسناتها.
حميد وطارق شقيقان ينتميان لعائلة معدمة تعيلها الأم بعد أن أصاب الخرف الأب واستولى الحمق على الأخ الأكبر. حميد وطارق وزملاؤهما نسخ كربونية صادقة عن أبطال فيلم سابق لنفس المخرج بعنوان "علي زاوا". فلم يكن ينقص المشهد الافتتاحي غير زاوا وكويتة وعمر وبوبكر، بل ربما كانوا هناك ولكن بأسماء ووجوه جديدة تئن تحت وطأة نفس أوضاع التهميش وإهدار الكرامة الإنسانية.
وكما كان علي زاوا ملهما لأصدقائه فقد كان طارق بطل الحي، مسيطرا على الجميع ومعلنا عن ولادة "زعيم" منتظر لـ"عصابة" تجمعه بحميد وفريد ونبيل المشكلين لرباعي آخر على شاكلة السابقين في "علي زاوا".
يتوفى الملك الراحل الحسن الثاني نهاية شهر يوليو من العام 1999 تعبيرا عن نهاية مرحلة وبداية أخرى.
صار أطفال سيدي مومن شبابا يافعين. وبنفس الملعب (كما في المشهد الافتتاحي للفيلم)، يداعبون كرة قدم على أطراف الحي في مقابلة ما كان لها أن تنتهي دون عراك تستل فيها السلاسل والألفاظ النابية من أغمادها عنوانا على مزاج عام لا يزال باسطا سيطرته على هذا الحي الهامشي.
شبان يتصارعون ويعلنون عن خطر قادم ميزته العنف والصدام، وهو ما لم يتأخر كثيرا حيث استفاقت الدار البيضاء في السادس عشر من شهر مايو 2003 على وقع أعمال إرهابية غير مسبوقة معلنة عن سقوط نظرية "الاستثناء المغربي" و"القبضة الأمنية" الكفيلين بدرء أخطار ما يعتمل في العالم من تجاذب وصراع إيديولوجيين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وانبعاث مفهوم الجهاد العالمي ضد الاستكبار الغربي ومن والاه بطبعته الجديدة.
لم يتغير في مشهد أطفال سيدي مومن البعيدين عن تفجيرات مراكش 1994، غير حقيقة أنهم كبروا واشتد عودهم وصاروا أهدافا لحملات التجنيد والأدلجة ليكونوا وقود التفجيرات الجديدة و"نجومها".
لكن لنعد قليلا إلى الحي وما عاشه هؤلاء الأربعة قبل التحول لأدوات تنفيذ طيعة لمشاريع أُعدت ودُبرت بليل.
كبر طارق وصار ذا نفوذ أقوى يبسط سيطرته على مناطق كاملة من الحي الهامشي، يمارس فيها تجارته في الممنوعات بحماية رجال سلطة كان مفترضا منهم حماية المجتمع من تلك الآفات. وكشاب مسؤول وخبير بالحياة منذ نعومة الأظفار، أبعد أخاه حميد عن السير في الطريق ذاته، فعائلتهما تحتاج من يعيلها ذات اعتقال. وكذلك كان..
لقد ازداد الحي الهامشي اتساعا واستوطنه جيش من السكان لا جامع بينهم غير مظاهر التفسخ الأخلاقي والدنو الاجتماعي وغياب المرجعية والضوابط. وفي خضم هذا الخليط غير المتجانس يصبح تأمين لقمة العيش عملية صعبة التحقق، وتأمين التوازن النفسي ضربا من الخيال لا يتحقق إلا باستعمال كل أصناف المخدرات والمسكرات هروبا من واقع مرير. هنا يتحول سيدي مومن إلى غابة يستعمل فيها كل فرد أو جماعة دينية سلاحها ترهيبا أو ترغيبا لاستقطاب الأتباع.
لقد نفذ الفكر المتطرف إلى قلب الحي، واستقطع له إمارات خاصة تطبق فيها "الأحكام الشرعية" دون رقابة أو بتواطؤ من المعنيين بالأمن الروحي للسكان.
في السادس عشر من مايو 2003. انفجرت الدار البيضاء لكن أحوال حي سيدي مومن لم تتغير كثيرا في مواجهة القهر والتهميش، ولا أحوال الأمة الإسلامية تحسنت في مواجهة قوى الاستكبار العالمي. أسفي على شباب ترك لحاله يجابه الأهواء ويقع صريعا لطموحات إرهاب استهدف إنسانية المسحوقين لتكون صواعقهم التي انفجرت في دار إسبانيا وغيرها من المواقع بالدار البيضاء واحدة من صرخات مقهوري الوطن.
وأسفي على شباب متروك لحاله مقابل حديث عن مراجعات فكرية لشيوخ "السلفية" في الوقت الذي يستدعي فيه الوضع الاقتصادي إصلاحا جذريا باعتباره قارب النجاة الوحيد لجر البلاد إلى مرفأ أمان.
من السجن خرج الفيزازي والكتاني وأبو حفص والحدوشي وكثيرون كانوا يُقَدمون كشيوخ للسلفية الجهادية، ووصل حزب بمرجعية "إسلامية" إلى الحكومة، ومرت على المغرب رياح "ربيع وخريف"، لكن كثيرا من المعتقلين لا يزالون وراء القضبان بملف حقوقي مفتوح لا يجرؤ كثيرون على الاقتراب منه أو السعي لإغلاقه.
يستمر إصرار المعتقلين على تطبيق اتفاق 25 مارس 2011 الذي كان ينص على حل الملف بشموليته في إطار زمني معقول، من خلال تسريع الأحكام والبت في القضايا الرائجة في المحاكم وتفعيل مسطرة العفو، وتستمر إضراباتهم داخل السجون بموازاة مراجعات فكرية للمعتقلين.
لكن الأكيد أيضا أن خلايا جديدة تتساقط يوما عن يوم بما ينذر بمخططات مستمرة لا تلقي بالا للسجن ولا للمراجعات ولا للحرب الأمنية الاستباقية، وفي انتظار الفرصة السانحة للضرب من جديد..
قصة الانتحاريين الأربعة عشر الذين خرجوا من حي سيدي مومن في السادس عشر من ماي في العام 2003، حاملين أحزمتهم الناسفة معروفة بعض من تفاصيلها لدى الجمهور. وقد أخطأ نبيل عيوش في تبنيه نهجا فيلميا مبنيا على الكرونولوجيا التاريخية والتقريرية في الخطاب في كثير من المشاهد.
وكان حريا به البحث عن حلول إبداعية أخرى تستطيع أن تمنح الشريط الغموض والحبكة الفنية التي تستثير لدى المتفرج الفضول للبحث فيما جرى وما تلاه بدل الاقتصار على تصوير متتالية من المشاهد المتتابعة حد الملل لتجنيد الشبان وتدريبهم وأدلجتهم ومن تم تنفيذهم للعمليات الانتحارية.
لقد أفلت نبيل عيوش الموعد مع صناعة شريط كانت كل توابل القصة المثيرة متوفرة فيه. لعله الخوف من سبر أغوار المسكوت عنه أو الخوف من خيانة الرواية الأصلية. لكنهما عذران لا يلغيان مسؤولية المبدع السينمائي الواقف وراء الفيلم في رتابة البناء وعدم القدرة على نسج أجزاء قصته بمعايير سينمائية تختلف كلية عن السياقات الروائية الأدبية.
السينما انتماء وبحث وانشغال بقضايا الإنسان والمكان. أما حين تتحول إلى مجرد استغلال لأحداث ووقائع ومواضيع تستهدف الإثارة، فالنتيجة أن ينتهي المطاف بصاحبها مسوقا لأفلام خلاعة وعهر يندرج تحتها فيلم نبيل عيوش الجديد عن الدعارة بمراكش، "الزين لي فيك"، الذي يشارك به في إحدى فقرات مهرجان كان هذه الأيام..