بعد حملة هستيرية شتموا فيها كل من انبثق عن انتخابات 23 اكتوبر 2011، وصل أخيرا
السبسي وأهم أعوانه للسلطة. صحيح أنهم اعتمدوا توجها للتخفي وراء ائتلاف رباعي شكلي، الوزراء الذي يمثلونه يسبح كل منهم في عالم أحادي، بعيدا عن رئيس حكومة يبدو خارج الصورة تماما. لكن من يتحمل مسؤولية السلطة الآن في أعين عديد من الناخبين والتونسيين هو السبسي وحزبه، السبسي وأمين عام حزبه، الذي يشغل موقع وزير الخارجية، يجسمان حصيلة السلطة الحالية بعد مرور مئة يوم على تشكيل الحكومة دون حسبان فترة المماطلة بين الانتخابات التشريعية والرئاسية، التي تم فيها خرق الدستور ضمنيا من خلال الامتناع عن تشكيل حكومة، بما يضمن التحالفات اللازمة والمساومات الضرورية لتأمين وصول السبسي لكرسي الرئاسة، ودون حسبان الشهر الذي استغرق فيه تشكيل الحكومة بعد انتخاب السبسي.
لقد بقي السبسي دون أي نشاط رسمي منذ يوم 22 نيسان/ أبريل الجاري. وبعد حالة عطالة مطولة لم يجد فيها الرئيس ما يفعله على ما يبدو (مثلا لم ير ضرورة لاستقبال عائلات شهداء الجيش الوطني في العملية الأخيرة ضد الإرهاب في أوقات فراغه الطويلة)، استقبل يوم 27 نيسان/ أبريل الرئيس الألماني. السبسي كان على ما يبدو مرهقا إلى حد الخلط بين تاريخي 7 تشرين الثاني/ نوفمبر (التاريخ الرمزي لاعتلاء بن علي للسلطة، وبعدها كان السبسي أحد أعوانه) و7 حزيران/ يونيو عند مواعدة الرئيس الألماني في قمة الثمانية هذا الصيف.
وبالمناسبة في أوقات فراغه الطويلة لم ير السبسي المكلف دستوريا بحماية الدستور، وتلك أهم صلاحياته، الإشارة حتى شكليا للأغلبية النيابية وعلى رأسها حزبه، أنها خرقت الدستور بتعديها تأجيل تشكيل المجلس الأعلى للقضاء، وهو التجاوز الذي أدى إلى إضراب القضاة منذ أيام. إذ ترك هذا الملف في أيدي نائبه في رئاسة حزبه ورئيس البرلمان الحالي السيد محمد الناصر المهتم، أكثر بمخاطر نشر سجل غيابات عديد نوابه التي قاربت أحيانا الصفر على "صورة" المجلس، والأيدي الأمينة لرئيس لجنة التشريع العام عضو حزب السبسي عبادة الكافي، الذي سبق أن كان محامي بن علي وعائلته وقتلة شهداء الثورة. وهكذا تسجل الجمهورية الثانية أول خرق دستوري لا غبار عليه أمام صمت مطبق لأحزاب الائتلاف الحاكم ومثقفي "النمط الحداثوي" على حد السواء.
فقط برئيس مثل السبسي يمكن أن نفهم التصريح غير الدبلوماسي (الذي يتم لأول مرة من الثورة لمسؤول ألماني رفيع) للرئيس الألماني بعد استضافته من السبسي، الذي قال فيه إن الفساد عائق رئيسي للاستثمار في
تونس.
تم استدعاء القاضي محمد عادل بن إسماعيل رئيس لجنة المصادرة سابقا للتحقيق بصفته متهما في قضية "السبسي غايت"، التي يجري فيها تحقيق بمشاركة لجنة مكافحة الجريمة المنظمة الكندية.
القضية الأصل تتمثل في استعمال غير قانوني للجنة مصادرة أملاك العائلة الحاكمة بإذن من السبسي، عندما كان رئيس الحكومة سنة 2011 لبيع شركة نفطية، يملك صهر بن علي (سليم شيبوب) فيها أسهما مع كنديين. وكان وكيل المعاملة شركة المحاماة للأخوين السبسي، وكلف ذلك خزينة الدولة مليارات عديدة.
أشرت لهذا الموضوع خلال أحد المواجهات التلفزيونية في إطار الحملة الانتخابية الرئاسية في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2014 أمام أحد ممثلي حملة السبسي، الذي حاول منعي من الكلام بدعوى أن ذلك "أسرار دولة" رغم أن المسالة تم تناولها صحفيا في مقال موثق بأكثر من جزء في أحد المواقع الإلكترونية التونسية. ومن حسن الحظ أن القضية فيها طرف دولي وازن بما يضمن عدم المماطلة فيها وردمها. من المفروض أن تنتصب الجلسات التلفزيونية لنقاش الموضوع أمام الرأي العام. لكن "شمس الباجي الساطعة" مثلما صدرت أحد الصحف الصفراء المتملقة صفحتها الأولى، لا يبدو أنها تسمح الآن بأن يطلع الناس كما يجب على الموضوع.
الرئيس الألماني الذي زار تونس ليومين التقى فيها "هيئة الحقيقة والكرامة"، المكلفة بملف العدالة الانتقالية في تونس. في حين إلى الآن لم يدعهم السبسي للقاء ولا يزال موضوع تسليم أرشيف الرئاسة لها مجمدا. أهم ما قاله الرئيس الألماني في هذا اللقاء، الذي له تجربة مباشرة في بلده في العدالة الانتقالية حيث أشرف على حل "الستازي"، لا أعتقد أنه سيروق للسبسي تحديدا، قوله "عموما كل جهة تودّ الاحتفاظ باحتكار المعلومة، هي في الحقيقة ترغب في إعادة إنتاج النظام الاستبدادي وليست القطيعة معه". يأتي ذلك إثر تصريحه العلني اللافت وغير الدبلوماسي بعد لقاء السبسي حول دور الفساد في تونس في تعطيل الاستثمار، وهو ما لا يمكن أن نصفه بتحفيز للاستثمار الألماني في تونس، وهو أحد أهم مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر فيها.
ثم الطامة الأخرى وزير الخارجية وأمين عام حزب السبسي الطيب البكوش. آخر المؤشرات المتتالية على ذلك حصل منذ أيام، إثر تأكيد حكومة طبرق الليبية على مقتل الصحفيين التونسيين المختطفين منذ أشهر على أيدي مجموعات وصفت بـ"الجهادية" قرب درنة، صرح وزير الخارجية "لا شيء يؤكد مقتل سفيان الشورابي ونذير القطاري". وهو ما يعكس حالة من العجز المتواصل حول ملف اختفائهما. هنا لا يمكن أن نركز اللوم بالضرورة على عدم قدرة الحكومة إنقاذهما. أقوى الحكومات والدول لم تستطع بالضرورة إنقاذ رهائنها لدى "داعش" (أولها الولايات المتحدة). المشكل أن السعي لذلك يبدو محدودا منذ وصول الكوش وطاقمه لمقر الخارجية. كان على وزير الخارجية في أقل الأحوال الإعلان عن عزم السلطات إرسال وفد للتحقق مما يجري، والسعي لاستجواب المعترفين بالاغتيال. القول أن "لاشيء يؤكد" ثم عدم الإعلان عن أي مبادرة لمحاولة التأكد هو تعبير عن العجز وإصرار عليه.
الطيب البكوش ترك وحيدا في العراء حتى من زملائه في السلطة وحزبه بعد تصريحاته المثيرة للسخرية حول تركيا، إذ قامت الصحافة التونسية بنشر تحقيق حاولت فيه الحصول على تعليق من وزارة الخارجية أو رئاسة الجمهورية حول تصريحات البكوش حول وجود "فيزا خاصة الجهاد لتركيا"، تعطي للشبان التونسيين الملتحقين بـ"داعش" عبر تركيا. فواجهت "تحفظا" و"تهربا" عن التعليق من الجهتين. أما السفارة التركية فنفت رسميا وجود هذه الفيزا ولم تشأ التعليق أكثر. أمين عام حزب السبسي، الأمين العام لكفاءات "أربعة حكومات في أربعة دول مختلفة"، مثلما روج السبسي لحبه في جملة مشهورة صارت محل سخرية الآن، أصبح مثل مرض معدي لا يريد الاقتراب منه أحد. ويبدو أنه تم الاتفاق في الكواليس على لملمة الفضيحة بالصمت الجماعي.
وبالمناسبة هذا السلوك منسجم مع تعامله مع أهم ملف في عهدة الدبلوماسية التونسية أي الملف الليبي عموما. فقد صرح البكوش هذا الأسبوع بعد لقائه السبسي أن مسؤولة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، ستأتي لتونس للقاء أطراف ليبية في إطار الحوار الليبي. كأن تونس محطة سفر ودور ديبلوماسيتها في ملف مهم وفي علاقة مباشرة بالوضع الداخلي، هو مجرد إعلان جدول أعمال لقاءات ممثلي الاتحاد الأوروبي.
لم يستطع وزير الخارجية الجديد أن يبني شخصية واضحة واكتفى بالسطو على ما يفعله غيره، إذ أعلن أن من دلائل "الدبلوماسية الجديدة" التي يدفع إليها هو دعم ترشح وزير المالية الأسبق جلول عياد لرئاسة البنك الإفريقي للتنمية. في حين ذلك الترشيح تم رسميا وعبر وسائل الإعلام في عهد الرئيس المرزوقي. البكوش بوصفه أمين عام حزب السبسي هو الرمز الأبرز لحالة التحيل العامة ووهم "الكفاءة" الذي روج له هذا الحزب.