بعد تحرير مدينة جسر الشغور من قبل «جبهة الفتح» المؤلفة من مجموعات مسلحة إسلامية، تشكل جبهة النصرة عمودها الفقري، ارتفعت وتيرة المخاوف من ارتكابات محتملة ضد العلويين في محافظة اللاذقية. ذلك أن السيطرة على جسر الشغور تعني، عسكرياً، الإطلال المباشر على منطقة الساحل.
إن كلمة «تحرير» باتت تثير مشكلة وجدانية لدى السوريين المعارضين لنظام
الأسد الكيماوي، بسبب «المُحرِّر» الذي هو جبهة النصرة، وربما ينسحب الأمر على معظم التشكيلات الإسلامية الفاعلة. فهم يفرحون، من جهة، بطرد قوات النظام من منطقة جديدة كان يسيطر عليها، ويغصون بهذا الفرح، من جهة ثانية، لأن «المحرِّر» المفترض لا يؤمن بالحرية ولا بأي من القيم التي من أجلها أطلق السوريون ثورتهم ضد النظام. لكن هذا شيء، ومخاوف «الأقليات» شيء آخر تماماً. والمقصود بالأقليات هنا كل المكونات الاجتماعية التي لديها مشكلة مع الإسلام السني والإسلاموية السنية، والجهادية منها بصورة خاصة. وعلى رغم أن التيار الإسلامي عموماً، والمكون الجهادي منه بصورة خاصة، يعلن في خطابه عداءه الصريح للطائفة العلوية (و«تسامحه» مع المسيحيين، من موقع «الأخ الأكبر» تجاه «أهل الذمة»)، لم تشهد الحرب متعددة المستويات الدائرة في
سوريا، إلى اليوم، مذابح طائفية واسعة النطاق ضد العلويين على غرار المذابح الطائفية التي ارتكبها النظام بواسطة شبيحته العلويين في عدد من المناطق كالحولة وقبير وجديدة الفضل وداريا وغيرها، حيث كان يتم ذبح الأطفال والرضّع أو حرقهم على مرأى من أمهاتهم وآبائهم. وإذا لجأنا إلى لغة الأرقام، لوجدنا أن الغالبية الساحقة من ضحايا النظام التي تقدر بنحو ربع مليون قتيل هم من المنتمين إلى الأكثرية السنية. بالمقابل، تتحدث التقديرات عما بين ستين ألفا إلى مئة ألف من القتلى العلويين في المعارك ضد سائر السوريين. وتدور هذه المعارك خارج المناطق ذات الغالبية السكانية العلوية، الأمر الذي يعني أنها معارك هجومية، بالمعنى الاجتماعي، وليست دفاعية.
لكن الأسوأ من المذابح الطائفية المذكورة والأخطر في دلالاته كمؤشر على مستقبل العلاقة بين المكونات السورية، إنما هو احتفال البيئات الاجتماعية الموالية بها كـ«انتصارات» على العدو. على سبيل المثال، تم توزيع الحلوى وإطلاق النار في الهواء ابتهاجاً بمجزرة الكيماوي في الغوطة، على رغم إنكار النظام مسؤوليته عن ارتكابها. مثال آخر، حينما اعترض أهالي من أحياء حمص الموالية طريق قافلة مساعدات إغاثية من الأمم المتحدة كانت متجهة إلى الأحياء المحاصرة.
ليس المقصود بإيراد هذه الأمثلة القول إن بعض الطوائف أكثر طائفية أو عدوانية أو وحشية من غيرها. كما لا يعني عدم وقوع مجازر بحق العلويين أو غيرهم من الأقليات، إلى اليوم، أنها لن تقع غداً. حينما يسود منطق الانتماءات الأهلية على الانتماء الوطني، تصبح كل الطوائف والأقوام سواء في نظرتها إلى «الآخر العدو». واقع الحال أن الثورة الشعبية في سوريا التي بدأت سلمية، شكلت فرصةً لخلق هوية وطنية سورية، وقف
العلويون منها موقفاً خارجياً، فلم يكتفوا بعدم المشاركة في الثورة ضد نظام دكتاتوري دموي، لم يوفرهم من مظالمه، بل وقفوا منها موقفاً عدائياً وعدوانياً صريحاً منذ اليوم الأول، وشارك كثير من شبانهم في عمليات القتل الممنهجة ضد البيئات الثائرة.
يأتي الاعتراض على هذه الوقائع غالباً بالقول إن الشبيحة المدنيين الذين شاركوا في القمع والقتل لم يقتصروا على العلويين، وهو اعتراض صحيح. ولكن في الوقت الذي تم فيه نبذ الشبيحة من غير العلويين من قبل بيئاتهم الأهلية واعتبروا أعداء، لم نر من البيئة الاجتماعية العلوية ما يشير إلى نبذ مماثل، إلا في حوادث متفرقة في السنتين الأخيرتين حين بدأ الشبيحة بمد اعتداءاتهم إلى بيئاتهم الأهلية نفسها، وباتوا يتصرفون كقطاع طرق خارج أي سيطرة من السلطة. من تم نبذهم حقيقةً هم أولئك الأفراد الوطنيون الشجعان من أبناء الطائفة بحكم المولد الذين وقفوا في صف الثورة على رغم كل التضييق الاجتماعي الذي تعرضوا له.
لكن الأكثر دلالة هو موقف العلويين من نظام تصرف مثل عصابة خارج القانون، منذ اللحظات الأولى للثورة السلمية، ودمر البلاد طولاً وعرضاً، من غير أن يتمكنوا كجماعة أهلية من إفراز ممثليهم السياسيين الخاصين بهم. ويشير هذا المسلك إلى أمرين متعارضين معاً: أولهما أنهم لا يتصرفون كطائفة من الطوائف، أو جماعة من الجماعات الأهلية، ليجلسوا على طاولة المفاوضات مع الجماعات الأخرى في «مؤتمر طائف سوري» عبر ممثلين سياسيين عنهم بعيداً عن النظام الكيماوي؛ والثاني هو أنهم ينظرون بعين العداء إلى المكون الأكثري السني بوصفه تهديداً وجودياً لهم كطائفة. ينتج عن هذين المسلكين أنهم ما زالوا يعتبرون النظام الكيماوي «دولة» ويتمسكون ببقائه بهذه الصفة، مع استعداد مستمر لتقديم المزيد من الضحايا من شبانهم دفاعاً عن «دولتهم» هذه. لفهم هذا السلوك المتناقض ظاهرياً، لا بد من افتراض سيكولوجيا جمعية لعلويي سوريا تنظر إلى الأمر من المنظار التالي: فقط منذ عهد حافظ أسد وصعوداً، امتلك العلوي النمطي ـ بصرف النظر عن قربه من النظام أو تمتعه بامتيازات السلطة من عدمهما ـ ثقة بالذات طالما افتقدها في ظل التهميش السابق. بات يشعر أنه مواطن في دولة، مرفوع الرأس، لا يضطر إلى إخفاء انتمائه الأهلي أو ثقافته ولهجته، بل بالعكس أصبح قادراً على التباهي بها.
مع اندلاع الثورة وقف العلوي النمطي ضدها لأنه، من موقعه الأقلوي، رآها ثورة السنة ضد «دولته». ليس لأن الثوار السلميين في البداية كانوا «عراعير» أو سلفيين أو إسلاميين أو إرهابيين، بل لأن الثورة كان مفترضاً لها أن تؤدي إلى تغيير النظام الدكتاتوري الوراثي إلى نظام ديمقراطي. فمن صناديق الاقتراع سيخرج، حسب تصورات العلوي النمطي، السنة حكاماً بما أنهم يشكلون الأكثرية العددية. بدا لهم هذا المستقبل الأسود كقدر لا مفر منه. سيفقدون وضع الأمة الممتازة ليذوبوا في مساواة لا يمكنها ان تكون مساواة ما داموا أقلية والآخر أكثرية.
بعد تحرير إدلب وجسر الشغور، ارتفعت وتيرة المطالبات بالضمانات. فقد بدا النظام هشاً وقابلاً لانفراط عقده بين يوم وآخر. والخطر الإسلامي الذي طالما استخدم كشماعة كاذبة، أصبح اليوم حقيقة واقعة. فرأس حربة القوات التي تدحر قوات النظام هو اليوم جبهة النصرة القاعدية الولاء، وأحرار الشام وجيش الإسلام وغيرها من المجموعات الإسلامية المتفاوتة في إعلان عدائها الصريح للعلويين.
الضمانات تكون طرفاً في صفقة، طرفها الآخر تخلي العلويين عن النظام واختيار ممثلين آخرين للطائفة. طالما لم يحدث هذا فهم يطلبون الحماية، لا الضمانات. والرد الإيجابي على طلب الحماية هو «العفو عند المقدرة».
وهذا ليس مضموناً في الشروط الراهنة.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)