مجرد ذكر اسمه في
سوريا ولبنان كان يثير الرعب، لكن خبر وفاته كان هامشيا في التلفزيون السوري الذي اكتفى بخبر صغير مفاده أن الرجل قضى نتيجة "وعكة صحية"، ومر خبره وكأن المتوفى بائع متجول مجهول الهوية والنسب.
عرفت عنه القسوة وفظاظة الطباع والعصبية، ونسبت إليه سلسلة طويلة من الجرائم البشعة، كما أنه عرف بـ"الرجل الأول" للرئيس بشار الأسد في لبنان.
اقترن اسمه بالكثير من الملفات الدموية سواء في داخل سوريا أم خارجها.
كان من رجالات النظام الأقوياء والشرسين ومن أهم المساهمين في قمع الثورة السورية.
رستم غزالي، المكنى بـ"أبو عبدو"، المولود في درعا عام 1953، معروف بدوره في لبنان، حيث استغل نفوذه ومنصبه في أجهزة المخابرات السورية للقيام بأنشطة غير قانونية، ومن ذلك، دوره في إفلاس بنك المدينة بعد أن استحوذ على قروض وصلت إلى 200 مليون دولار خلال ثلاث سنوات.
بدأ حياته العسكرية كضابط صغير في كتيبة مدفعية كانت عاملة في لبنان إبان دخول الجيش السوري إليها، عين في عام 2002 خلفاً للواء غازي كنعان رئيس جهاز الأمن في القوات السورية في لبنان، وهنا بدأت مرحلة من التخبط الأمني والسياسي، ولم يأت يوم 14 شباط/ فبراير عام 2005، إلا ودوى انفجار ضخم بالقرب من فندق سانت جورج وسط بيروت، يودي بحياة رئيس الوزراء
رفيق الحريري الذي استقال بسبب الضغوطات التي مارسها عليه غزالي ودمشق، وهو ما جعل الشارع اللبناني ينفجر غضبا لإخراج الجيش السوري من لبنان.
ورد اسم غزالي مع خمسة ضباط سوريين استجوبتهم اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال الحريري، ومنذ ذلك الحين تولدت لديه الشكوك بأن النظام سيتخلص منه ليحمي نفسه.
عاد غزالي إلى دمشق في عام 2005، خلال الانسحاب السوري من لبنان الذي فرضه مجلس الأمن الدولي، وحاز غزالي على ثقة الأسد الذي كلفه بإدارة أمن المنطقة الحدودية بين لبنان وسوريا، بعد أن ترك قنوات الاتصال مفتوحة في لبنان مع مخبريه وحلفائه.
ومن خلال موقعه كرئيس لفرع الأمن العسكري في ريف دمشق، مارس ابتزازه بحق تجار دمشق وريفها، وفرض" الأتاوات" عليهم كما يشهد كثيرون على تلك الفترة، وبعد اندلاع الثورة في سوريا أرسل إلى درعا، في محاولة تهدئة أبناء محافظته الذين أشعلوا شرارة الثورة ضد النظام، لكن رعونته كانت مرة أخرى سببا في التصعيد، فقد قابل المتظاهرين بالتهديد والوعيد إن لم يعودوا إلى بيوتهم، الأمر الذي دعا المتظاهرين لرفع سقف المطالب وزيادة رقعة التظاهر.
بعدها عين رئيسا لشعبة الأمن السياسي، بعد تفجير مبنى الأمن القومي، ومقتل عدة وجوه هامة في ما يسمى "خلية الأزمة".
ويعد هذا الجهاز واحداً من أهم الأجهزة الاستخباراتية لدى الأسد، فعلاوة على مهمة ذلك الجهاز في ملاحقة النشطاء والسياسيين ومراقبة تحركاتهم وتحجميها، شارك عناصره في عمليات قتل وقمع واعتقال المتظاهرين المدنيين وممارسة أفظع الجرائم في حق السوريين.
قصف بيت غزالي في ظروف غامضة وتكثر الروايات وتتضارب حول حكاية القصف، وهناك روايات تؤكد أن من أصدر الأوامر بتصفية غزالي هم زملاء له في الجيش. وأبرز المشتبه بهم في هذا السياق هو رئيس المخابرات الجوية الجنرال جميل حسن، الذي يقال إنه أصدر الأوامر للطائرات بقصف محيط منزل غزالي، بذريعة منع مقاتلي الجيش الحر من التقدم داخل بلدة قرفا، وأيضا مدير المخابرات العسكرية رفيق شحادة الذي اتهم غزالي ببيع البنزين لمقاتلين معارضين للنظام في جنوب البلاد.
وسبق هذه الرواية فيديو على "يوتيوب" في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، يظهر تفجير قصر غزالي بقريته، وأشار المتحدث في الفيديو إلى أنهم لن يسمحوا "لشذاذ الآفاق بالوصول لهذه المنازل إلا على ركامها".
وأشارت تقارير إلى أن غزالي كان قد أثار غضبا كبيرا في صفوف العسكريين بسبب رفضه السماح لقوات من إيران و"حزب الله" بالتمركز داخل منزله في مرتفعات بلدة قرفا في درعا، حيث أرادت تلك القوات اتخاذه مركز عمليات ومستودعا للمدفعية والمدرعات لصد تقدم المعارضة على محور دمشق – درعا، وبدلا من ذلك، قام غزالي بتفجير منزله بالكامل وحرق مكوناته كافة، ونشر تسجيلاً للعملية على "يوتيوب"، في حركة تحد واضح للأوامر الصادرة بالتعاون مع الإيرانيين و"حزب الله".
وضمن هذا السياق أصدر الرئيس الأسد قرارا بإقالة رئيس شعبة الأمن السياسي في الجيش اللواء غزالي ورئيس شعبة الأمن العسكري اللواء رفيق شحادة، وذلك على خلفية المشكلة بينهما، وصلت حد الضرب المبرح بحق غزالي الذي يقال إنه تعرض لتعذيب شديد انتهى بموته بعد معاناة دامت ثلاثة أسابيع.
لكن، ما فرضيات مقتل وتصفية غزالي التي حفلت بها المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية؟
الفرضية الأولى، تقول إن عينة من دمه نقلت إلى أحد مستشفيات بيروت لفحصها بناء على طلب عائلته، وتبين أنه حقن بمادة سامة منذ مدة طويلة، ما تسبب في وفاته.
وتقول الفرضية الثانية، تقول نقلا عن طبيب لبناني أشرف واطلع على حالة غزالي، إن النظام أقدم على تعذيبه إلى حد "فسخ" جسمه إلى نصفين بربطه بسيارتين ثم تباعدتا بشكل معاكس.
فيما تؤكد الفرضية الثالثة، أن غزالي أصيب بشظايا قنبلة في قدمه وعينه اليسرى في قريته قرفا أثناء اشتباك مع مجموعة تابعة لشحادة.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية أن غزالي وشحادة تشاجرا إلى حد العراك بالأيدي بين أنصارهما، وتعرض فيه غزالي لضرب مبرح وتم سحله وتعرضه للصعق بالكهرباء في شعبة المخابرات العسكرية، من أحد مرافقي شحادة، بسبب خلاف على دور وسطوة ونفوذ إيران و"حزب الله" في سوريا، وأنه دخل بعدها مرحلة موت سريري.
وبموازاة ذلك، نشر الإعلامي الفرنسي جان فيليب لوبيل أن "مصادر في المخابرات السورية أكدت أن شحادة دعا غزالي إلى اجتماع أمني، ولدى وصوله نزع سلاح حراسه وتم ربطه وتعذيبه ورميه أمام مستشفى الشامي بدمشق بين الحياة والموت".
فيما تقول الفرضية الرابعة، إن الكشف عن فضيحة بنك "المدينة" اللبناني وورود اسم غزالي وماهر شقيق بشار الأسد في أنهما لعبا أدوارا في إفلاس البنك، دفع الأجهزة الأمنية إلى
تصفية غزالي لدفن الملف، خصوصا أن الاعتداء على غزالي لا يمكن أن يحصل إلا بغطاء من جهة عليا بالدولة.
وبقي سبب وفاته الحقيقي أحجية يبدو أنها لن تكشف قريبا.. وقد تكشف أيامه الأخيرة في أحد مستشفيات منطقة المزة الدمشقية بعضا من اللغز.
غياب غزالي يعطي مؤشرات عن تصفية النظام له، لأن النظام لم يعتد أن يترك أي تمرد حتى لو لم يكن موجها ضده بشكل مباشر.. ونشطاء يقولون إن النظام قتل غزالي لأن اسمه ضمن قائمة المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتي ستقدمها الأمم المتحدة الشهر القادم للقضاء في بعض البلدان، ما يرجح نظرية تصفيته ومن قبله آصف شوكت. وقال بعض أولئك الناشطين إن السوريين مقبلون على سلسلة تصفيات للنظام ورجالاته من داخله وليس من الخارج.
ومن يطلع على سير الأحداث والاغتيالات التي جرت في جسد النظام، سيلاحظ أن الموت وصل لمعظم من له علاقة بمقتل رفيق الحريري، فقد انتحر وزير الداخلية اللواء غازي كنعان، بحسب رواية النظام، بعد مقتل الحريري في 2005، وبعد ذلك قتل العميد محمد سليمان المحسوب على باسل الأسد، وهو ضابط الارتباط حينها مع إيران و"حزب الله" في عام 2008 في الشاليه الخاص به!
وقبل سليمان قتل رجل "حزب الله" عماد مغنية في دمشق ضمن المربع الأمني في كفر سوسة، حيث تنتشر أفرع المخابرات وحيث الحراسة شديدة ومشددة دوما.
وفي عام 2013، قتل اللواء جامع جامع رئيس فرع الأمن العسكري وهو أيضاً متهم بالتورط باغتيال الحريري، وتم الإعلان عن محاولة فاشلة لاغتيال الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة، وهو أيضاً من العارفين والمطلعين على ملابسات قضية الحريري وكان مستشارا إعلاميا لبشار الأسد.
وهكذا تتدحرج الحكايات والروايات في زقاق دمشق وطرقاتها..
سوريا دولة الغموض وتعدّد الروايات؛ فوراء كل حكاية في دمشق رواية رسمية مقتضبة لا تتجاوز كلماتها أصابع اليد، وروايات أخرى ترويها الصحافة والمقربون وأعداء النظام.
موت غزالي جزء من هذه الروايات مع فارق أن الموت واحد، واللعنات لن تفارق قبور هؤلاء القتلة.
وفاة غزالي ستدفن معها العديد من الملفات السرية، خصوصا الدور الإيراني في سوريا، واسم المحرض الأول على قتل الحريري.