هذا ينذر بمخاطر لا يمكن تجنبها وأزمات تطرق الأبواب بقسوة رغم أي تقدم حدث.
فكرة
الحوار ذاتها افتقدت صدقيتها واحترامها في الخطاب الرسمي.
في الحوار الذي أطلقته الحكومة لتعديل القوانين المنظمة للانتخابات النيابية لم تأبه بأية مقترحات قدمتها الأحزاب والقوى السياسية وتحولت جلساته إلى ما يشبه أعمال السيرك، كل شيء صاخب لكن بلا مهارة وإمتاع.
المشهد نال من هيبة الدولة ومستوى كفاءتها وشكك في قدرتها على إدارة أية توافقات عامة.
لم يكن هناك جدول أعمال واضح للحوار وتضاربت من فوق منصته تصريحات رئيس الحكومة مع تصريحات وزير العدالة الانتقالية، كأننا أمام حكومتين إحداهما تقول إنها منفتحة على كل المقترحات، والأخرى تعلن أن المسألة محسومة مسبقا وأنه لا نية للأخذ بأية مقترحات.
ولم يكن هناك معيار مقنع لاختيار المدعوين للحوار فاختلطت الأوراق بفداحة بين السياسي والأمني وبين من له حظوظ انتخابية ومن هو هامشي تماما في أية حسابات.
قوضت المشاحنات، وبعضها مبتذل، أية رهانات على الحوار، أي حوار، كأنه كان مقصودا الإساءة لأية أدوات ديمقراطية.
المعني أننا ذاهبون إلى
انتخابات نيابية بلا أدنى توافق على قوانينها وشكوك قوية في عوارها السياسي قبل الدستوري.
تعقيم البرلمان من السياسة ينزع عنه أية شرعية دستورية، أيا كانت تصريحات وزير العدالة الانتقالية، وينقل التفاعلات من تحت قبته إلى الشوارع المفتوحة.
وهذا مشروع اضطراب سياسي لا يحتمله بلد منهك يتعافى بالكاد.
ورغم ضعف الأحزاب الذي لا يماري فيه أ،حد فإن الحملة عليها تستهدف تقويضها بدلا من تقويتها والنيل من التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وأية قيمة ديمقراطية أخرى منصوص عليها في الدستور كأنه قد جرى تعليق العمل به دون إعلان.
أمام مثل هذه الحملات الممنهجة تتراجع فرص التوافق الوطني في لحظة صعبة من التاريخ المصري، فالصراخ الإعلامي لا يؤسس لوعي حقيقي والإقصاء السياسي لا يفضي إلى إرادة عامة.
ما تحتاجه مصر الآن أن تعرف أين تقف بالضبط.. ما الذي أنجزته وما هي التحديات المحدقة.. أين الثغرات المحتملة ولماذا التضحيات التي قد يبذلها مواطنوها حتى يروا ضوءا في نهاية النفق.
وكل ذلك كلام في السياسة يستدعي فتح قنوات الحوار لا سدها.
في الحوار فرصة لاستكشاف مواهب البلد وتجديد نخبها السياسية، والتجديد غير الاصطناع والاقناع غير الفرض.
بمعني أوضح فإن انفتاح المجال العام يؤدي إلى حلحلة أزمة سياسية مزدوجة تعترض المستقبل المصري وفرصه في بناء دولة حديثة.
لا طبقة رجال دولة على شيء من الكفاءة والتماسك في الوفاء بأدوارها الطبيعية، والأداء العام يميل في الغالب إلى أعمال الهواة.. وهذه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها وصداها واصل إلى مراكز القرار في العالم بأسره.
ولا طبقة سياسية على شيء من الوضوح في أفكارها وبرامجها والقدرة على العمل والتأثير وتحمل مسئولية التحول إلى مجتمع ديمقراطي حر وإنفاذ القيم الدستورية.. وهذه حقيقة أخرى تنذر بتقويض أية تطلعات لتثبيت الدولة وتأكيد طبيعتها الحديثة.
الانكشاف المزدوج يضع البلد كله أمام المجهول ويصعب التعويل على بقاء الأمر الحالي على ما هو عليه.
في الحالتين هناك فقر مدقع في الرؤى والتصورات والأفكار وغياب شبه كامل لأي معني جدي في العمل السياسي.. كأنه يمكن التخلص من صداعه ببعض العقاقير البيروقراطية والأمنية.
من حقنا أن ننظر في المرآة ونطل على الحقائق التي يعرفها العالم وهو يراهن على صعود مصري جديد لأسباب تتعلق بالموقع الجغرافي وأهميته القصوي على خرائط الإقليم.
ومن واجبنا أن نصحح ما هو مختل لا أن نكابر فيما لا تصح فيه المكابرة.
الفراغ السياسي كالتجويف في أي بناء، قد تراه قويا لكنه لا يصمد لأية زلازل محتملة.
في غياب التصورات والأفكار الملهمة تتصاعد مخاوف العودة إلى الماضي وسياساته ماثلة فيما هو معتمد الآن اقتصاديا، وهذا نذير باحتمال الدخول في احتجاجات اجتماعية لا قبل لأحد على تحمل فواتيرها.
سؤال العدالة الاجتماعية يسبق غيره من الأسئ،لة وغياب الحوار العام قد يفتح أبواب جهنم على البلد كله إذا ما رفعت شريحة أخرى من دعم الطاقة بينما تتمتع «رأسمالية مبارك» بكل الإعفاءات والمميزات باسم دعم الاستثمار.
الكلام في العدل الاجتماعي هو كلام في السياسة والأمن والحرب على الإرهاب.
الحكومة تعترف أنها ليست سياسية وأن وزراءها اختيروا وفق معايير القدرة على العمل والإنجاز، بعض الكلام أقرب إلى الصحة فليس من الضروري أن يكون الوزير سياسيا بالمعنى الحزبي وقد تزكيه خبراته الفنية في تخصصه لتولي منصبه وبعض الكلام أقرب إلى التهويم، فالمنصب التنفيذي بطبيعته هو منصب سياسي.
من مسئولية السلطة، أية سلطة، أن تضع أجندة الحوار العام قبل أية أطراف أخرى، وهذه مسئولية تكاد تغيب تماما.
باليقين فهناك اختراقات حقيقية في أكثر من ملف غير أن كل تقدم وراءه ثغرة من ملفات الأمن القومي الضاغطة إلى قضايا المواطنين العاديين التي تتعلق بحياتهم اليومية.
بمعني آخر لا يوجد سياق سياسي يضمن التماسك الوطني الضروري في لحظة تحديات كبرى.
تغلق القنوات السياسية حيث يجب أن تفتح ويتعطل الحوار العام حيث يجب أن يحضر.
في الأزمات الوجودية التي تتعرض لها مصر على حدودها المباشرة أو عند منابع النيل لا حوار جديا من أي نوع مع أية قوي سياسية يبين الحقائق، ويساعد على أوسع توافقات وطنية ممكنة، ولا هناك حوار في الأزمة اليمنية وحدود الدور المصري فيها، ما هو ضروري وما هو محظور، وذلك كله موضوع أزمات داخلية محتملة إذا اختلت الحسابات.
في حرب ضارية مع الإرهاب لا تصلح الوسائل الأمنية وحدها، والكلام العام عن أننا صامدون في مواجهته وقادرون على دحره في النهاية صحيح في مجمله لكنه يفتقد إلى أية تفسير مقنع لأسباب ارتفاع وتيرة عملياته في سيناء والداخل معا رغم كل الدماء والتضحيات التي بذلت.
في غياب السياسة تقدم الإعلام لملء الفراغ، غير أنه افتقد لعوامل كثيرة قوة دفعه واستحال إلى نوع من الهيستيريا التي لا تقنع أحدا أن هناك دولة تثق في نفسها وفي شعبها وبات عبئا على نظام الحكم.
بعبارة واحدة فإن الانسداد السياسي هو «كعب أخيل» الذي تنفذ منه كل السهام
(نقلا عن صحيفة الشروق)