إنه خارج عالمكم الآن، خارج حياتكم السفلى، فاضحكوا وابكوا.. والهوا واسخروا.. واشمَتوا واشتموا.. واكتبوا منشورات الفيس الراثية والباكية.. والفرحة والشامتة.. السامية والساقطة.. وثرثروا في القنوات.. واهزأوا بخلق الله.. إنه لن يعبأ بكم.. ولن يفكر فيكم.. ولن يُشغل بكم.. إنه في شغل عنكم.. بل لعله لو اطلع عليكم لضحك منكم.. وأشفق عليكم..
مات بوكا
إنه خارج قوانين هذا العالم الآن.. بعيد عن أهل هذه الدنيا.. لا صلة له بالتفاهة والسفاهة.. ولا بالسذاجة والبلاهة.. ولا بالحماقة والغباوة.. ابنوا السجون.. واسلخوا الجلود.. واهدموا البيوت.. وأحرقوا المدن.. واشتروا السلاح.. وتآمروا مع الشياطين.. إنه لن يضيره شيء من ذلك.. بل لعله لو اطلع عليكم لضحك منكم.. وأشفق عليكم..
مات بوكا
حين كان يعيش بينكم كان فاهما لكل شيء.. فاقهًا لكل ما يجري.. بل لعله من أكثر الناس فهما وفقها.. كانت له نفس صافيه شفافة.. تنكشف أمامها الأحداث والأحوال.. العين التي كان يرى بها الدنيا لا غبش فيها ولا حول.. كان كاشفا لكل الألاعيب والأكاذيب.. لم يتأثر بالدعاية والسعاية.. ولم تدخل دماغه الخزعبلات والحركات.. كان يقول لكم: أريحوا أنفسكم.. ولا تتعبوا في تعريفي بالحق والباطل.. بالصدق والكذب.. لست محتاجا إلى كل ما تبذلونه من أموال على الإعلام والأقلام.. لتخدعوني عن نفسي.. ولتضلوني عن رأيي.. خرجتُ من تحت (بوكة) الزيت في 17 فبراير.. وأنا أعي ما أفعل.. وما زالت القضية هي القضية.. والأشخاص هم الأشخاص.. والأفعال هي الأفعال.. وأنا أدرى بنفسي.. وأعلم بربي.. وأعرف بقضيتي.. لن تغرني قبيلة ولا عائلة.. ولن تأخذني عصبية ولا جاهلية..
مات بوكا
حين كان يعيش بيننا كان معدنا ليس للبيع ولا للأجرة.. نفسه التي بين جنبيه.. وعقله الذي في رأسه.. لم يكونا معروضين في السوق.. ولم يكونا معرَّضين للمساومة.. كل الأثمان المبذولة كانت بالقياس إليهما تافهة قليلة حقيرة.. كانت نفسه في السماء.. وكان عقله مع الشمس.. نعم أنا بوكا المتواضع القريب.. ولكني أنا المتسامي البعيد.. أطأطئ رأسي تحت السيارات لأكسب رزقي.. وألطخ جسمي بالزيت لأعف نفسي.. ولكن هذا الرأس لا يعرف الذلة.. وهذه النفس لا تعرف الوضاعة..
مات بوكا أيها الناس
كان بحياته وبموته محرجا لكم.. ماذا يمكن أن تقولوا له..؟ ماذا يمكن أن تفتروا عليه..؟ هل يمكن أن تقولوا له: أنت دبل شفرة.. أنت إخواني.. أنت من أنصار الشريعة.. أنت مصراتي.. أنت غرباوي.. أنت تكفيري.. أنت من الخوارج.. أنت من الدواعش.. أنت سارق.. أنت قاتل.. تطلب المنصب.. تطلب المال.. تطلب الشهرة.. عميل لقطر.. عميل لتركيا.. أنت مؤدلج.. أنت سجين سابق..؟
إنه النموذج المحرج لكم.. المخرس للألسنة.. المبطل للتهم.. المسكت للتافهين.. كل التهم لا تركب معه.. لا تمشي معه.. كل الأراجيف بعيدة عنه..
إنه الشاهد على بطلان كل الأوصاف والنعوت.. كل القاموس الحقير يقف عنده ولا يصل إليه.. ولا يبقى إلا الوصف الصحيح.. أنت إنسان ينشد الحرية.. ويرفض المذلة.. ويكفر بالطواغيت.. ويتسامى على الخسة..
عاش بوكا مبتسما ضاحكا.. كأنما يسخر من الساخرين منه.. يأخذ الأمور بكل سهولة.. من مهنته.. إلى لباسه.. إلى الطعام الذي يأكله.. إلى المدفع الذي يُذَخِّره.. يفعل كل ذلك وهو يضحك.. كأنما يشعر بأنه حالة غير قابلة للتصنيف.. بأنه نموذج يستعصي على التوصيف.. كأنما كان يعلم بمصيره ومنتهاه.. بأنه سيسمو ويسبق.. ويعلو ويرتفع.. ويصل إلى هناك.. في حياته وفي موته.. سيصل إلى أقصى ما يصل إليه إنسان.. أن يعيش حرا.. وأن يموت شهيدا.. وكذلك الأرواح الشفافة الخفيفة.. الطائرة السابحة.. تقابل الحياة مطمئنة.. وتغادرها راضية..
بوكا يعلّمكم أن الإنسانية الراقية ليست في المال.. ولا في التعليم.. ولا في الجاه.. ولا في السلطان.. ولا في الشهرة.. ولا في شهادات الجامعات.. ولا في القدرة على الحديث المنمق.. ولا في السفر إلى البلدان البعيدة.. ولا في الرطانة بلسان الخواجات.. ولا في الظهور على التلفزيونات.. ولا في التاريخ النضالي.. ولا في تأليف الكتب.. ولا في سَوْق الخطب.. ولا في حضور المؤتمرات.. ولا ولا..
بوكا يعلمكم أن الإنسانية جوهرة صافية في الصدر.. لا تشترى من السوق.. ولا تقدر بالدولار ولا باليورو.. ولا توهب ولا تهدى.. ولا تؤخذ ولا تعطى.. إنها شيء يُنتج في الداخل.. ويبقى في الداخل..
مات بوكا الشاهد على القضية.. بوكا البرهان الساطع.. الذي ولد على هذه الأرض.. ومات على هذه الأرض.. لم يغادرها يوما واحدا.. هو جزء من ترابها وهوائها وبحرها وملحها وسَبَختها.. وجهُه صورة لملامحها.. لهجته مثال لأصالتها.. ثباته دليل على وجود الشجاعة فيها.. صدقه برهان على أنها لم تسقط كلها.. لم تلوث جميعها.. أن هناك شيئا فيها يستحق العناية.. أن جانبا منها يستدعي العشق والهيام والتدله..
لم تمت كل الضمائر.. ولم يسقط كل الناس.. ولم يَضِع كل الخلق.. يكفي أن في بنغازي بوكا.. في برقة بوكا.. في الشرق بوكا.. في عالمنا بوكا..
ولماذا يسمى
الشهيد شهيدا؟ لماذا بربكم؟ لأنه البرهان والحجة على صدق القضية.. فكل القضايا العادلة يُمكر بها.. ويُكاد لها.. وتحشد الحشود لطمسها وتغييبها.. لقتلها وإلغائها.. يعمل عليها شياطين الإنس والجن.. ومكر الليل والنهار.. المكر الذي تزول منه الجبال.. الجبال المادية.. ولكن الجبال الأخرى الراسية الراسخة التي هي أصلب وأثبت من جبال الأرض.. تبقى شاهدة على الحق.. لا تزيغ ولا تزول ولا تزل.. وإلا ما بقي حق ولا بقي خير ولا عاش جمال..
لأنه الحاضر الباقي بعد مماته.. مثلا مضروبا.. وسيرة مستعادة.. وذكرى مستحضرة.. ونورا مضيئا.. يقول: إن ذلك ممكن.. وإن الحق حق.. وإن الصدق صدق.. وإن الفجور فجور.. وإن القبح قبح.. وأن الخير موجود..
خبروني بربكم كيف كنا سنعيش لولا هؤلاء..؟ كيف كانت الحياة ستمضي لولا الأوتاد.. لولا الأقطاب التي تمسك اليقين من أن يتزعزع.. كيف كان الإيمان سيتحقق.. كيف كان المثل سيتجسد ويتجسم..؟ في إنسان مؤمن.. بين أضلاعه نفس توّاقة برّاقة.. لا تُمس ولا تُدنس.. ثم يمضي سالكا سبيله.. يقول: ها أنا ذا.. هكذا الثبات في الطوفان.. هكذا الاستمساك بالعروة الوثقى.. هكذا تهون المغريات.. ويصغر الترغيب والترهيب.. وهكذا يُستعذب الموت.. وتكون الحياة الدنيا أقل من قضية عادلة.. وأصغر من نفس شريفة..
أليس غريبا أن تنعاه المدن جميعا.. ويُصلَّى عليه في المشارق والمغارب.. ويطير ذكره في آفاق الأرض.. ويسأل عنه من لا يعرفه.. ويتشوق إليه من لم يلقه.. ويبكي عليه من لا قرابة له به.. وتنكره مدينته التي هو منها.. ولا تكون له فيها جنازة مهيبة.. وصلاة مشهودة.. أليس غريبا أن يجلس والده ووالدته لقبول العزاء على بعد مئات الأميال من مسقط رأسه.. وموطن عشيرته..؟
ولكن هكذا هو بوكا.. وهكذا هي بنغازي التي منها بوكا.. وهكذا هي الدنيا التي منها نحن.. فيها الأبطال والأنذال.. وفيها الناس وفيها النسناس.. وهكذا هي الحياة..
سلام عليك يا أخي.. سلام عليك.. يا ابن مدينتي.. الدمع قليل في جنبك.. نبكي عليك.. ونبكي على أنفسنا.. ونبكي على أعدائك.. ونبكي على دنيانا.. المختلطة الظالمة.. المضلة الضالة.. حيث الخير قليل.. والشر كثير.. حيث الألم والنصب والوصب.. وقد صرت أنت يا أخي إلى مكان غير هذا المكان.. وإلى عالم غير هذا العالم.. كان لك إليه حبل ممدود.. وصلة موصولة.. كنت تتشوق إليه.. وتعيش له.. وتحيا به.. كنت قطعة من نور في هذه الظلمة.. وغيمة من ماء في هذا الظما..
بالموت ينقضي الدرس.. وترتفع الأقلام.. وتنجلي الخواتيم.. وتتضح المعالم.. اكتملت ساعات حياتك وأيامها.. واستبان مآلها وختامها.. فهنيئا لك.. بعت نفسك لمن يقدّر ثمنها.. ورددتها إلى بارئها.. وعجلت بها إلى ربها..
"بوكا" لقب لمحمد العريبي أحد القادة الميدانيين الذين يواجهون حفتر في بنغازي، كانت مهنته تغيير زيوت السيارات.