(1)
في تناوله المميز والمبكر لوقائع الربيع العربي، ذكرنا الأكاديمي والمفكر الإيراني حميد دباشي بأن أول القطر في غيث ربيع شعوب المنطقة جاء من
طهران وثورتها الخضراء في صيف عام 2009. ورغم أن هذا اجتهاد من ضمن اجتهادات أخرى في تحديد نسب وحسب ربيع العرب الذي أصبح فخر العالم وعار اللقطاء من كل ملة، إلا أنه اجتهاد يكتسب أهمية خاصة في ظل الأوضاع الحالية التي جعلت طهران تتولى أحد جناحي الثورة المضادة لمصالح الشعوب وإرادتها. فهو يذكرنا بأن الشعب الإيراني كان ولا يزال الضحية الأولى لقاسم سليماني ورهطه.
(2)
في غمرة نشوة البعض وفزع آخرين مما يوصف بأنه تمدد إيراني شيعي يهدد باجتياح الشرق
الأوسط، من المفيد أن نذكر أن جناحي الثورة المضادة هما العدو لكل شعوب المنطقة وتطلعاتها. فكل منهما بدأ بقمع شعبه، وما التمدد إلا وسيلة لتلك الغاية في استدامة القمع ضد كل الشعوب. نحن إذن أمام هجمة استعمارية جديدة يلبس فيها المستعمر لباس أهل بلد كما فعل لورنس العرب ويتكلم بلسانهم، ويصلي أحياناً في مساجدهم.
(3)
إيران حالة خاصة في هذه المنظومة، لأنها بحسب منتقدي النظام الحالي مقبلة على المجهول بسبب هيمنة
الحرس الثوري على مقاليد الأمور، وتحضيره لما يبدو أنه انقلاب وشيك على سلطة المرشد الذي يعاني المرض ولا يوجد خليفة توافقي له. وكان المرشد الحالي قد مكن للحرس الثوري، وسمح بتغلغله في مفاصل الدولة وبنية الاقتصاد بقصد تحجيم ولجم خصومه، ولكن السحر انقلب على الساحر، وتحول الحرس الثوري إلى قوة لا تملك جهة أخرى في إيران لجمها.
(4)
خلال السنوات الأخيرة، عزز الحرس الثوري قبضته عبر استراتيجيات متعددة، منها استهداف رموز الثورة، بدءاً باعتقال او تحديد إقامة قادة الثورة الخضراء، وتهديد وابتزاز الشخصيات المعتدلة مثل رفسنجاني وروحاني. وفي الآونة الأخيرة، تواترت أحكام قضائية في حق ناشطين تذكر بالقضاء في بلدان عربية معروفة (تشابهت قلوبهم)، والاعتقالات وحتى الاغتيالات للمعارضين. وتشير كل الدلائل على أن فوز روحاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لم يخفف من غلواء متطرفي النظام، بل زاد من شراسة هجمتهم، لأنه كشف لهم مدى كراهية الشعب الإيراني لهم، حتى أنه يتمسك بأصغر قشة مثل روحاني نكاية فيهم. وقد زاد هذا من هلعهم وسعارهم، وأدى إلى تسريع مخططهم لاستبدال المرشد بعد رحيله الوشيك المتوقع بشخص يكون تحت قبضتهم.
(5)
هذا تذكير بأن وطأة النظام الإيراني هي أشد ما تكون على الإيرانيين أنفسهم، وأن الثورة المضادة الأكبر التي يقودها ما تزال في داخل إيران، وضد الشعب الإيراني. وبينما يتحدث الكثيرون، وبمبررات معقولة، عن تمدد شيعي، وعواصم من دمشق وبيروت إلى صنعاء، مروراً ببغداد، أصبحت محتلة، فإن أكبر ضحايا هذا الاحتلال هي طهران، وأكبر ضحايا التمدد «الشيعي» الجديد هم
الشيعة المعتدلون، بل وبعض المتطرفين، كما يبدو من الطريقة التي نأى بها أمثال مقتدى الصدر عن هذا الهوس.
(6)
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن «تمدد شيعي»، بل وعن «صحوة شيعية». ولكن يبدو أن هذه «الصحوة ستكون»، إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، أشبه بمشاهد فيلم «المومياء» الذي ينتفض فيه الأموات ليهرولوا إلى انتحار جماعي عبر العدوان الجنوني على كل من يلتقون. وقد تبع كثيرون علي شريعتي رحمه الله في انتقاد ما وصفوه بـ «التشيع الصفوي» وتجلياته البغدادية، ولكن التشيع الصفوي (أياً كانت حقيقته) هو بلا شك رحمة أمام التشيع الأسدي والباسيجي والحشدي.
(7)
عندما يصبح بشار الأسد وكتائب الموت التي تذكرنا بالصرب والهوتو والنازيين، هي عنوان «الصحوة الشيعية»، فإن هذه صحوة هي إلى الموت أقرب. فقد جمعت هذه «الصحوة» مساوئ العلمانية في تنكرها للدين ومكونه الأخلاقي، مع الهوس المرضي والعنف المغولي. وهي بضاعة بارت في إيران، ولا يتم تصديرها إلا عبر كتائب الإبادة الجماعية وحشود «شاعش» (داعش المتشيعة). وهذا انتحار أخلاقي وسياسي جماعي لن يتأخر الهلاك الفعلي عنه كثيراً.
(8)
أكثر الإعلام مؤخراً الحديث عن «الثورة السورية اليتيمة»، ولكن الثورة المنسية حقاً هي ثورة الشعب الإيراني الخضراء التي يعتمد على نجاحها مستقبل المنطقة. فالشعب الإيراني في حاجة قبل غيره إلى من ينقذه من طغيان الباسيج وبقية النازيين الجدد. وكما أن الأمن والسلم لم يعودا إلى أوروبا إلا بعد تحرير ألمانيا من قبضة النازيين، فإن منطقتنا لن تشهد عودة الهدوء والاستقرار ما لم يتم تخليص الشعب الإيراني من قبضة الهوس القتال الذي أحال إيران إلى جحيم على أهلها، وامتد حريقه إلى كل جيرانه. فليتم تحرير طهران حتى تتحرر بقية العواصم.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)